مشايخ القبائل والعواقل والفلسطينيين يهنئون محافظ شمال سيناء بعيد الأضحى المبارك    صندوق تحيا مصر يطلق مبادرة "أضاحى" لتوزيع اللحوم على الأسر الأولى بالرعاية (صور)    قوات الاحتلال تطلق قنابل حارقة تجاه الأحراش في بلدة الناقورة جنوب لبنان    الملك سلمان: أسأل الله أن يديم الأمن والاستقرار على وطننا وأمتنا العربية    رئيس الأسقفية يهنئ الرئيس السيسي وشيخ الأزهر بحلول عيد الأضحى    هالة السعيد: 3.6 مليار جنيه لتنفيذ 361 مشروعا تنمويا بالغربية بخطة 23/2024    محافظ المنيا يستقبل المهنئين بعيد الأضحى المبارك    كارثة بيئية فى نهر السين بفرنسا تهدد السباحين قبل انطلاق الأولمبياد    تصفية محتجزي الرهائن في مركز الاحتجاز في مقاطعة روستوف الروسية    الكرملين: بوتين لا يستبعد إجراء محادثات مع أوكرانيا لكن بشرط توفير الضمانات    "نيمار" الأقرب لحل أزمة الظهير الأيسر في الزمالك أمام المصري    "ابني متظلمش".. مدرب الأهلي السابق يوجه رسالة للشناوي ويحذر من شوبير    «العيد أحلى» داخل مراكز شباب «حياة كريمة» في البحيرة |صور    ثلاثى الأهلى فى الإعلان الترويجى لفيلم "ولاد رزق 3"    حصاد أنشطة وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في أسبوع    انتشال جثة مهندس من نهر النيل بالغربية بعد 24 ساعة من جهود البحث    كامل الوزير يتابع انتظام العمل بمرافق النقل والمواصلات    وفاة سيدة مصرية أثناء أداء مناسك الحج    "اللعب مع العيال" بطولة محمد إمام يحصد 3 ملايين ونصف منذ طرحه فى السينمات    في عيد ميلاده.. بيومي فؤاد نجومية متأخرة ومقاطعة جماهيرية    خبير تغذية يقدم نصائح لتناول لحوم عيد الأضحى دون أضرار    3 فئات ممنوعة من تناول الكبدة في عيد الأضحى.. تحذير خطير لمرضى القلب    بالتفاصيل مرور إشرافي مكثف لصحة البحر الأحمر تزامنًا مع عيد الأضحى المبارك    قوات الاحتلال تعتقل 3 مواطنين جنوب بيت لحم بالضفة الغربية    ريهام سعيد: «محمد هنيدي اتقدملي ووالدتي رفضته لهذا السبب»    شاعر القبيلة مات والبرج العاجى سقط    نصائح منزلية | 5 نصائح مهمة لحفظ لحم الأضحية طازجًا لفترة أطول    إيرادات Inside Out 2 ترتفع إلى 133 مليون دولار في دور العرض    أدعية وأذكار عيد الأضحى 2024.. تكبير وتهنئة    رئيس دمياط الجديدة: 1500 رجل أعمال طلبوا الحصول على فرص استثمارية متنوعة    الأهلي يتفق مع ميتلاند الدنماركي على تسديد مستحقات و"رعاية" إمام عاشور    كرة سلة.. قائمة منتخب مصر في التصفيات المؤهلة لأولمبياد باريس 2024    مصدر من اتحاد السلة يكشف ل في الجول حقيقة تغيير نظام الدوري.. وعقوبة سيف سمير    سعر الدولار في البنوك المصرية اليوم الأحد 16 يونيو 2024    وزيرة التضامن توجه برفع درجة الاستعداد القصوى بمناسبة عيد الأضحى    النمر: ذبح 35 رأس ماشية خلال أيام عيد الأضحى بأشمون    ما أفضل وقت لذبح الأضحية؟.. معلومات مهمة من دار الإفتاء    برشلونة يستهدف ضم نجم مانشستر يونايتد    بالصور.. اصطفاف الأطفال والكبار أمام محلات الجزارة لشراء اللحوم ومشاهدة الأضحية    عيد الأضحى 2024.. "شعيب" يتفقد شاطئ مطروح العام ويهنئ رواده    إصابة شاب فلسطينى برصاص قوات الاحتلال فى مخيم الفارعة بالضفة الغربية    التونسيون يحتفلون ب "العيد الكبير" وسط موروثات شعبية تتوارثها الأجيال    المالية: 17 مليار دولار إجمالي قيمة البضائع المفرج عنها منذ شهر أبريل الماضى وحتى الآن    ارتفاع تأخيرات القطارات على معظم الخطوط في أول أيام عيد الأضحى    محافظ السويس يؤدي صلاة عيد الأضحى بمسجد بدر    بالصور.. محافظ الغربية يوزع هدايا على المواطنين احتفالا بعيد الأضحى    حاج مبتور القدمين من قطاع غزة يوجه الشكر للملك سلمان: لولا جهوده لما أتيت إلى مكة    البنتاجون: وزير الدفاع الإسرائيلي يقبل دعوة لزيارة واشنطن    الآلاف يؤدون صلاة عيد الأضحى داخل ساحات الأندية ومراكز الشباب في المنيا    محافظ كفرالشيخ يزور الأطفال في مركز الأورام الجديد    محافظ بني سويف يؤدي شعائر صلاة عيد الأضحى بساحة مسجد عمر بن عبدالعزيز    انخفاض في درجات الحرارة.. حالة الطقس في أول أيام عيد الأضحى    إعلام فلسطينى: 5 شهداء جراء قصف إسرائيلى استهدف مخيم فى رفح الفلسطينية    بالسيلفي.. المواطنون يحتفلون بعيد الأضحى عقب الانتهاء من الصلاة    ما هي السنن التي يستحب فعلها قبل صلاة العيد؟.. الإفتاء تُجيب    أنغام تحيي أضخم حفلات عيد الأضحى بالكويت وتوجه تهنئة للجمهور    العليا للحج: جواز عدم المبيت في منى لكبار السن والمرضى دون فداء    دعاء لأمي المتوفاة في عيد الأضحى.. اللهم ارحم فقيدة قلبي وآنس وحشتها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المرحلة الثانية: الدعوة جهاراً
نشر في الوفد يوم 11 - 07 - 2013


أول أمر بإظهار الدعوة
لما تكونت جماعة من المؤمنين تقوم على الأخوة والتعاون، وتتحمل عبء تبليغ الرسالة وتمكينها من مقامها نزل الوحي يكلف رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعالنة الدعوة، ومجابهة الباطل بالحسنى‏.‏
وأول ما نزل بهذا الصدد قوله تعالى‏:‏ {‏وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ‏}‏ [‏الشعراء‏:‏214‏]‏، وقد ورد في سياق ذكرت فيه أولًا قصة موسى عليه السلام، من بداية نبوته إلى هجرته مع بني إسرائيل، وقصة نجاتهم من فرعون وقومه، وإغراق آل فرعون معه، وقد اشتملت هذه القصة على جميع المراحل التي مر بها موسى عليه السلام، خلال دعوة فرعون وقومه إلى الله.‏
وكأن هذا التفصيل جيء به مع أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بجهر الدعوة إلى الله ؛ ليكون أمامه وأمام أصحابه مثال لما سيلقونه من التكذيب والاضطهاد حينما يجهرون بالدعوة، وليكونوا على بصيرة من أمرهم منذ البداية‏.‏
ومن ناحية أخرى تشتمل هذه السورة على ذكر مآل المكذبين للرسل، من قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم إبراهيم، وقوم لوط، وأصحاب الأيكة عدا ما ذكر من أمر فرعون وقومه ليعلم الذين سيقومون بالتكذيب عاقبة أمرهم وما سيلقونه من مؤاخذة الله إن استمروا عليه، وليعرف المؤمنون أن حسن العاقبة لهم وليس للمكذبين‏.‏
الدعوة في الأقربين
ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشيرته بني هاشم بعد نزول هذه الآية، فجاءوا ومعهم نفر من بني المطلب بن عبد مناف، فكانوا نحو خمسة وأربعين رجلًا‏.‏ فلما أراد أن يتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بادره أبو لهب وقال‏:‏ هؤلاء عمومتك وبنو عمك فتكلم، ودع الصباة، واعلم أنه ليس لقومك بالعرب قاطبة طاقة، وأنا أحق من أخذك، فحسبك بنو أبيك، وإن أقمت على ما أنت عليه فهو أيسر عليهم من أن يثب بك بطون قريش، وتمدهم العرب، فما رأيت أحدًا جاء على بني أبيه بشر مما جئت به، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتكلم في ذلك المجلس‏.‏
ثم دعاهم ثانية وقال‏:‏ (‏الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأومن به، وأتوكل عليه‏.‏ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له‏)‏‏.‏ ثم قال‏:‏ (‏إن الرائد لا يكذب أهله، والله الذي لا إله إلا هو، إني رسول الله إليكم خاصة وإلى الناس عامة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن بما تعملون، وإنها الجنة أبدًا أو النار أبدًا‏)‏‏.‏
فقال أبو طالب‏:‏ ما أحب إلينا معاونتك، وأقبلنا لنصيحتك، وأشد تصديقًا لحديثك‏.‏ وهؤلاء بنو أبيك مجتمعون، وإنما أنا أحدهم، غير أني أسرعهم إلى ما تحب، فامض لما أمرت به‏.‏ فوالله ، لا أزال أحوطك وأمنعك، غير أن نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطلب‏.‏
فقال أبو لهب‏:‏ هذه والله السوأة، خذوا على يديه قبل أن يأخذ غيركم، فقال أبو طالب‏:‏ والله لنمنعه ما بقينا‏.‏
على جبل الصفا
وبعد تأكد النبي صلى الله عليه وسلم من تعهد أبي طالب بحمايته وهو يبلغ عن ربه، صعد النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم على الصفا، فعلا أعلاها حجرًا، ثم هتف‏:‏ (‏يا صباحاه‏)‏
وكانت كلمة إنذار تخبر عن هجوم جيش أو وقوع أمر عظيم‏.‏
ثم جعل ينادي بطون قريش، ويدعوهم قبائل قبائل‏:‏ (‏يا بني فهر، يا بني عدي، يا بني فلان، يا بني فلان، يا بني عبد مناف، يا بني عبد المطلب‏)‏‏.‏
فلما سمعوا قالوا‏:‏ من هذا الذي يهتف‏؟‏ قالوا‏:‏ محمد‏.‏ فأسرع الناس إليه، حتى إن الرجل إذا لم يستطع أن يخرج إليه أرسل رسولًا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش‏.‏
فلما اجتمعوا قال‏:‏ (‏أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلًا بالوادي بسَفْح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم أكنتم مُصَدِّقِي‏؟‏‏)‏‏.‏
قالوا‏:‏ نعم، ما جربنا عليك كذبًا، ما جربنا عليك إلا صدقًا‏.‏
قال‏:‏ (‏إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العَدُوّ فانطلق يَرْبَأ أهله‏)‏‏(‏ أي يتطلع وينظر لهم من مكان مرتفع لئلا يدهمهم العدو‏)‏ (‏خشي أن يسبقوه فجعل ينادي‏:‏ يا صباحاه‏)‏
ثم دعاهم إلى الحق، وأنذرهم من عذاب الله ، فخص وعم فقال‏:‏
‏(‏يا معشر قريش، اشتروا أنفسكم من الله ، أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم من الله ضرًا ولا نفعًا، ولا أغني عنكم من الله شيئًا‏.‏
يا بني كعب بن لؤي، أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم ضرًا ولا نفعًا‏.‏
يا بني مرة بن كعب، أنقذوا أنفسكم من النار‏.‏
يا معشر بني قصي، أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم ضرًا ولا نفعًا‏.‏
يا معشر بني عبد مناف، أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم من الله ضرًا ولا نفعًا، ولا أغني عنكم من الله شيئًا‏.‏
يا بني عبد شمس، أنقذوا أنفسكم من النار‏.‏
يا بني هاشم، أنقذوا أنفسكم من النار‏.‏
يا معشر بني عبد المطلب، أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم ضرًا ولا نفعًا، ولا أغني عنكم من الله شيئًا، سلوني من مالي ماشئتم، لا أملك لكم من الله شيئًا‏.‏
يا عباس بن عبد المطلب، لا أغني عنك من الله شيئًا‏.‏
يا صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله ، لا أغني عنك من الله شيئًا‏.‏
يا فاطمة بنت محمد رسول الله ، سليني ما شئت من مالي، أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لك ضرًا ولا نفعًا، ولا أغني عنك من الله شيئًا‏.‏
غير أن لكم رحمًا سأبُلُّها بِبلاَلها‏)‏ أي أصلها حسب حقها‏.‏
ولما تم هذا الإنذار انفض الناس وتفرقوا، ولا يذكر عنهم أي ردة فعل، سوى أن أبا لهب واجه النبي صلى الله عليه وسلم بالسوء، وقال‏:‏ تبا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا‏؟‏ فنزلت‏:‏ {‏تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ‏}‏ [‏سورة المسد‏:‏1‏]‏‏.‏
كانت هذه الصيحة العالية هي غاية البلاغ، فقد أوضح الرسول صلى الله عليه وسلم لأقرب الناس إليه أن التصديق بهذه الرسالة هو حياة الصلات بينه وبينهم، وأن عصبة القرابة التي يقوم عليها العرب ذابت في حرارة هذا الإنذار الآتي من عند الله .‏
ولم يزل هذا الصوت يرتج دويه في أرجاء مكة حتى نزل قوله تعالى‏:‏ {‏فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ‏}‏ [‏الحجر‏:‏94‏]‏، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر بالدعوة إلى الإسلام في مجامع المشركين ونواديهم، يتلو عليهم كتاب الله ، ويقول لهم ما قالته الرسل لأقوامهم‏:‏ {‏يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ الله َمَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ‏}‏ [‏الأعراف‏:‏59‏]‏، وبدأ يعبد الله تعالى أمام أعينهم، فكان يصلي بفناء الكعبة نهارًا جهارًا وعلى رؤوس الأشهاد‏.‏
وقد نالت دعوته مزيدًا من القبول، ودخل الناس في دين الله واحدًا بعد واحد‏.‏ وحصل بينهم وبين من لم يسلم من أهل بيتهم تباغض وتباعد وعناد واشمأزت قريش من كل ذلك، وساءهم ما كانوا يبصرون‏.‏
المجلس الاستشاري لكف الحجاج عن استماع الدعوة
وخلال هذه الأيام أهم قريشًا أمر آخر، وذلك أن الجهر بالدعوة لم تمض عليه إلا أيام أو أشهر معدودة حتى قرب موسم الحج، وعرفت قريش أن وفود العرب ستقدم عليهم، فرأت أنه لابد من كلمة يقولونها للعرب، في شأن محمد صلى الله عليه وسلم حتى لا يكون لدعوته أثر في نفوس العرب، فاجتمعوا إلى الوليد بن المغيرة يتداولون في تلك الكلمة، فقال لهم الوليد‏:‏ أجمعوا فيه رأيًا واحدًا، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضًا، ويرد قولكم بعضه بعضًا، قالوا‏:‏ فأنت فقل، وأقم لنا رأيًا نقول به‏.‏ قال‏:‏ بل أنتم فقولوا أسمع‏.‏ قالوا‏:‏ نقول‏:‏ كاهن‏.‏ قال‏:‏ لا والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزَمْزَمَة الكاهن ولا سجعه‏.‏ قالوا‏:‏ فنقول‏:‏ مجنون، قال‏:‏ ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، ما هو بخَنْقِه ولا تَخَالُجِه ولا وسوسته‏.‏ قالوا‏:‏ فنقول‏:‏ شاعر‏.‏ قال‏:‏ ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رَجَزَه وهَزَجَه وقَرِيضَه ومَقْبُوضه ومَبْسُوطه، فما هو بالشعر، قالوا‏:‏ فنقول‏:‏ ساحر‏.‏ قال‏:‏ ما هو بساحر، لقد رأينا السحار وسحرهم، فما هو بنَفْثِهِم ولا عقْدِهِم‏.‏ قالوا‏:‏ فما نقول‏؟‏ قال‏:‏ والله إن لقوله لحلاوة، [‏وإن عليه لطلاوة‏]‏ وإن أصله لعَذَق، وإن فَرْعَه لجَنَاة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئًا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا‏:‏ ساحر‏.‏ جاء بقول هو سحر، يفرق به بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته، فتفرقوا عنه بذلك‏.‏
وتفيد بعض الروايات أن الوليد لما رد عليهم كل ما عرضوا له، قالوا‏:‏ أرنا رأيك الذي لا غضاضة فيه، فقال لهم‏:‏ أمهلوني حتى أفكر في ذلك، فظل الوليد يفكر ويفكر حتى أبدى لهم رأيه الذي ذكر آنفًا‏.‏
وفي الوليد أنزل الله تعالى ست عشرة آية من سورة المدثر {‏ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا وَبَنِينَ شُهُودًا وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ‏}‏ [‏من 11 إلى 26‏]‏ وفي خلالها صور كيفية تفكيره، فقال‏:‏ {‏إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ‏} [‏المدثر‏:‏18‏:‏ 25‏]‏
وبعد أن اتفق المجلس على هذا القرار أخذوا في تنفيذه، فجلسوا بسبل الناس حين قدموا للموسم، لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه وذكروا لهم أمره‏.‏
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج يتبع الناس في منازلهم وفي عُكَاظ ومَجَنَّة وذي المَجَاز، يدعوهم إلى الله ، وأبو لهب وراءه يقول‏:‏ لا تطيعوه فإنه صابئ كذاب‏.‏
وأدى ذلك إلى أن صدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتشر ذكره في بلاد العرب كلها‏.‏
أساليب شتى لمجابهة الدعوة
ولما فرغت قريش من الحج فكرت في أساليب تقضي بها على هذه الدعوة في مهدها‏.‏ وتتلخص هذه الأساليب فيما يلي‏:‏
*السخرية والتحقير، والاستهزاء والتكذيب والتضحيك‏:‏
قصدوا بها تخذيل المسلمين، وتوهين قواهم المعنوية، فرموا النبي صلى الله عليه وسلم بتهم هازلة، وشتائم سفيهة، فكانوا ينادونه بالمجنون {‏وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ‏}‏ [‏الحجر‏:‏6‏]‏، ويصمونه بالسحر والكذب {‏وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ‏}‏ [‏ص‏:‏4]‏، وكانوا يشيعونه ويستقبلونه بنظرات ملتهمة ناقمة، وعواطف منفعلة هائجة {‏وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ‏}‏ [‏القلم‏:‏51]‏، وكان إذا جلس وحوله المستضعفون من أصحابه استهزأوا بهم وقالوا‏:‏ هؤلاء جلساؤه {‏مَنَّ الله ُعَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا‏}‏ [‏الأنعام‏:‏ 53‏]‏، قال تعالى‏:‏ {‏أَلَيْسَ الله ُبِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ‏}‏ [‏الأنعام‏:‏53]‏، وكانوا كما قص الله علينا {‏إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاء لَضَالُّونَ وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ‏}‏ [‏المطففين‏:‏ 29‏:‏ 33]‏‏.‏
وقد أكثروا من السخرية والاستهزاء وزادوا من الطعن والتضحيك شيئًا فشيئًا حتى أثر ذلك في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال الله تعالى‏:‏ {‏وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ‏}‏ [‏الحجر‏:‏97‏]‏، ثم ثبته الله وأمره بما يذهب بهذا الضيق فقال‏:‏ {‏فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ‏}‏‏[‏الحجر‏:‏98، 99‏]‏، وقد أخبره من قبل أنه يكفيه هؤلاء المستهزئين حيث قال‏:‏ {‏إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ الله ِإِلهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْمَلُونَ‏}‏ [‏الحجر‏:‏ 95، 96‏]‏، وأخبره أن فعلهم هذا سوف ينقلب وبالًا عليهم فقال‏:‏ {‏وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ‏}‏ [‏الأنعام‏:‏10‏]‏‏.‏
*إثارة الشبهات وتكثيف الدعايات الكاذبة‏:‏
وقد أكثروا من ذلك وتفننوا فيه بحيث لا يبقى لعامة الناس مجال للتدبر في دعوته والتفكير فيها، فكانوا يقولون عن القرآن‏:‏ {‏أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ‏}‏ [‏الأنبياء‏:‏5‏]‏ يراها محمد بالليل ويتلوها بالنهار، ويقولون‏:‏ {‏بَلِ افْتَرَاهُ‏}‏ من عند نفسه ويقولون‏:‏ {‏إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ‏}‏ وقالوا‏:‏ {‏إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ‏}‏ [‏الفرقان‏:‏ 4‏]‏ أي اشترك هو وزملاؤه في اختلاقه‏.‏ {‏وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا‏}‏ [‏الفرقان‏:‏5‏]‏
وأحيانا قالوا‏:‏ إن له جنًا أو شيطانًا يتنزل عليه كما ينزل الجن والشياطين على الكهان‏.‏ قال تعالى ردًا عليهم‏:‏ {‏هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ‏}‏ [‏الشعراء‏:‏221، 222‏]‏، أي أنها تنزل على الكذاب الفاجر المتلطخ بالذنوب، وما جرّبتم عليّ كذبًا، وما وجدتم في فسقًا، فكيف تجعلون القرآن من تنزيل الشيطان‏؟‏
وأحيانًا قالوا عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنه مصاب بنوع من الجنون، فهو يتخيل المعاني، ثم يصوغها في كلمات بديعة رائعة كما يصوغ الشعراء، فهو شاعر وكلامه شعر‏.‏ قال تعالى ردًا عليهم‏:‏ {‏وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ‏}‏ [‏الشعراء‏:‏225‏:‏ 226‏]‏ فهذه ثلاث خصائص يتصف بها الشعراء ليست واحدة منها في النبي صلى الله عليه وسلم، فالذين اتبعوه هداة مهتدون، متقون صالحون في دينهم وخلقهم وأعمالهم وتصرفاتهم، وليست عليهم مسحة من الغواية في أي شأن من شؤونهم، ثم النبي صلى الله عليه وسلم لا يهيم في كل واد كما يهيم الشعراء، بل هو يدعو إلى رب واحد، ودين واحد، وصراط واحد، وهو لا يقول إلا ما يفعل، ولا يفعل إلا ما يقول، فأين هو من الشعر والشعراء‏؟‏ وأين الشعر والشعراء منه‏؟.‏
هكذا كان يرد عليهم بجواب مقنع حول كل شبهة كانوا يثيرونها ضد النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن والإسلام‏.‏
ومعظم شبهتهم كانت تدور حول التوحيد، ثم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم بعث الأموات ونشرهم وحشرهم يوم القيامة، وقد رد القرآن على كل شبهة من شبهاتهم حول التوحيد، بل زاد عليها زيادات أوضح بها هذه القضية من كل ناحية، وبين عجز آلهتهم عجزًا لا مزيد عليه، ولعل هذا كان مثار غضبهم واستنكارهم الذي أدى إلى ما أدى إليه‏.‏
أما شبهاتهم في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم مع اعترافهم بصدق النبي صلى الله عليه وسلم وأمانته وغاية صلاحه وتقواه، كانوا يعتقدون أن منصب النبوة والرسالة أجل وأعظم من أن يعطى لبشر، فالبشر لا يكون رسولًا، والرسول لا يكون بشرًا حسب عقيدتهم‏.‏ فلما أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نبوته، ودعا إلى الإيمان به تحيروا وقالوا‏:‏ {‏مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ‏}‏ [‏الفرقان‏:‏ 7‏]‏، وقالوا‏:‏ إن محمدًا صلى الله عليه وسلم بشر، و {‏مَا أَنزَلَ الله عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ‏}‏ [‏الأنعام‏:‏ 19‏]‏، فقال تعالى ردًا عليهم‏:‏‏{‏قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ‏}‏، وكانوا يعرفون ويعترفون بأن موسى بشر‏.‏ ورد عليهم أيضًا بأن كل قوم قالوا لرسلهم إنكارًا على رسالتهم‏:‏ {‏إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا‏}‏ [‏إبراهيم‏:‏10‏]‏، ف {‏قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ الله يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ‏}‏ [‏إبراهيم‏:‏ 11‏]‏‏.‏ فالأنبياء والرسل لا يكونون إلا بشرًا، ولا منافاة بين البشرية والرسالة‏.‏
وحيث إنهم كانوا يعترفون بأن إبراهيم وإسماعيل وموسى عليهم السلام كانوا رسلًا وكانوا بشرًا، فإنهم لم يجدوا مجالًا للإصرار على شبهتهم هذه، فقالوا‏: ألم يجد الله لحمل رسالته إلا هذا اليتيم المسكين، ما كان الله ليترك كبار أهل مكة والطائف ويتخذ هذا المسكين رسولًا {‏وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ‏}‏ [‏الزخرف‏:‏31‏]‏، قال تعالى ردًا عليهم‏: ‏{‏أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ‏}‏ [‏الزخرف‏:‏32‏]‏، يعني أن الوحي والرسالة رحمة من الله و‏{‏الله ُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ‏}‏ [‏الأنعام‏:‏124‏]‏‏.‏
وانتقلوا بعد ذلك إلى شبهة أخرى، قالوا‏:‏ إن رسل ملوك الدنيا يمشون في موكب من الخدم والحشم، ويتمتعون بالأبهة والجلال، ويوفر لهم كل أسباب الحياة، فما بال محمد يدفع في الأسواق للقمة عيش وهو يدعي أنه رسول الله ؟‏ {‏وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا‏}‏ [‏الفرقان‏:‏7‏:‏ 8‏]‏، ورد على شبهتهم هذه بأن محمدًا رسول، يعني أن مهمته هو إبلاغ رسالة الله إلى كل صغير وكبير، وضعيف وقوي، وشريف ووضيع، وحر وعبد، فلو لبث في الأبهة والجلال والخدم والحشم والحرس والمواكبين مثل رسل الملوك، لم يكن يصل إليه ضعفاء الناس وصغارهم حتى يستفيدوا به، وهم جمهور البشر، وإذن فاتت مصلحة الرسالة، ولم تعد لها فائدة تذكر‏.‏
أما إنكارهم البعث بعد الموت فلم يكن عندهم في ذلك إلا التعجب والاستغراب والاستبعاد العقلي، فكانوا يقولون‏:‏ {‏أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ‏}‏ [‏الصافات‏:‏16، 17‏]‏، وكانوا يقولون‏:‏ {‏ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ‏}‏ [‏ق‏: 3‏]‏ وكانوا يقولون على سبيل الاستغراب‏:‏ {‏هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرَى عَلَى الله كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ‏}‏ [‏سبأ‏:‏ 7، 8‏]‏‏.‏
وقال قائلهم‏:‏
أَموْتٌ ثم بَعْثٌ ثم حَشْرٌ ** حدِيثُ خُرَافة يا أم عمرو
وقد رد عليهم بتبصيرهم ما يجري في الدنيا، فالظالم يموت دون أن يلقى جزاء ظلمه، والمظلوم يموت دون أن يأخذ حقه من ظالمه، والمحسن الصالح يموت قبل أن يلقى جزاء إحسانه وصلاحه، والفاجر المسيء يموت قبل أن يعاقب على سوء عمله، فإن لم يكن بعث ولا حياة ولا جزاء بعد الموت لاستوى الفريقان، بل لكان الظالم والفاجر أسعد من المظلوم والصالح، وهذا غير معقول إطلاقا‏.‏ ولا يتصور من الله أن يبني نظام خلقه على مثل هذا الفساد‏.‏ قال تعالى‏:‏ {‏أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ‏}‏ [‏القلم‏:‏35، 36‏]‏، وقال‏:‏ {‏أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ‏}‏ [‏ص‏: 28‏]‏، وقال‏:‏ {‏أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ‏}‏ [‏الجاثية‏:‏21‏]‏‏.‏
وأما الاستبعاد العقلي فقال تعالى ردًا عليه‏:‏ {‏أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا‏}‏ [‏النازعات‏:‏27‏]‏، وقال‏:‏ {‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ الله الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ [‏الأحقاف‏: 33‏]‏، وقال‏:‏ {‏وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ‏}‏ [‏الواقعة‏:‏62‏]‏، وبين ما هو معروف عقلًا وعرفًا، وهو أن الإعادة {‏أَهْوَنُ عَلَيْهِ‏}‏ [‏الروم‏: 27‏]‏،وقال‏:‏ {‏كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ‏}‏ [‏الأنبياء‏:‏104‏]‏، وقال‏:‏ {‏أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ‏}‏ [‏ق‏:‏ 15‏]‏‏.‏
وهكذا رد على كل ما أثاروا من الشبهات ردًا مفحمًا يقنع كل ذي عقل ولب، ولكنهم كانوا مشاغبين مستكبرين يريدون عُلوا في الأرض وفرض رأيهم على الخلق، فبقوا في طغيانهم يعمهون‏.‏
*الحيلولة بين الناس وبين سماعهم القرآن، ومعارضته بأساطير الأولين‏:‏
كان المشركون بجنب إثارة هذه الشبهات يحولون بين الناس وبين سماعهم القرآن ودعوة الإسلام بكل طريق ممكن، فكانوا يطردون الناس ويثيرون الشغب والضوضاء ويتغنون ويلعبون، إذا رأوا أن النبي صلى الله عليه وسلم يتهيأ للدعوة، أو إذا رأوه يصلي ويتلو القرآن‏.‏ قال تعالى‏:‏ {‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ‏}‏ [‏فصلت‏:‏26‏]‏ حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتمكن من تلاوة القرآن عليهم في مجامعهم ونواديهم إلا في أواخر السنة الخامسة من النبوة، وذلك أيضًا عن طريق المفاجأة، دون أن يشعروا بقصده قبل بداية التلاوة‏.‏
وكان النضر بن الحارث، أحد شياطين قريش قد قدم الحيرة، وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس، وأحاديث رستم واسفنديار، فكان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسًا للتذكير بالله والتحذير من نقمته خلفه النضر ويقول‏:‏ أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثًا منه، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم واسفنديار، ثم يقول‏:‏ بماذا محمد أحسن حديثًا مني؟‏.‏
وفي رواية عن ابن عباس أن النضر كان قد اشترى قَيْنَةً، فكان لا يسمع بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته، فيقول‏:‏ أطعميه واسقيه وغنيه، هذا خير مما يدعوك إليه محمد، وفيه نزل قوله تعالى‏:‏ {‏وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله ِ‏}‏ [‏لقمان‏:‏ 6‏]‏‏.‏
الاضطهادات
أعمل المشركون الأساليب التي ذكرناها شيئًا فشيئًا لإحباط الدعوة بعد ظهورها في بداية السنة الرابعة من النبوة، ومضت على ذلك أسابيع وشهور وهم مقتصرون على هذه الأساليب لا يتجاوزونها إلى طريق الاضطهاد والتعذيب، ولكنهم لما رأوا أن هذه الأساليب لم تجد نفعًا في إحباط الدعوة الإسلامية استشاروا فيما بينهم، فقرروا القيام بتعذيب المسلمين وفتنتهم عن دينهم، فأخذ كل رئيس يعذب من دان من قبيلته بالإسلام، وانقض كل سيد على من اختار من عبيده طريق الإيمان‏.‏
وكان من الطبيعي أن يهرول الأذناب والأوباش خلف ساداتهم وكبرائهم، ويتحركوا حسب مرضاتهم وأهوائهم، فجروا على المسلمين ولاسيما الضعفاء منهم ويلات تقشعر منها الجلود، وأخذوهم بنقمات تتفطر لسماعها القلوب‏.‏
كان أبو جهل إذا سمع برجل قد أسلم له شرف ومنعة أنبه وأخزاه، وأوعده بإبلاغ الخسارة الفادحة في المال، والجاه، وإن كان ضعيفًا ضربه وأغرى به‏.‏
وكان عم عثمان بن عفان يلفه في حصير من ورق النخيل ثم يدخنه من تحته‏.‏
ولما علمت أم مصعب بن عمير بإسلامه منعته الطعام والشراب، وأخرجته من بيته، وكان من أنعم الناس عيشًا، فتَخَشَّفَ جلده تخشف الحية‏.‏
وكان صهيب بن سنان الرومي يُعذَّب حتى يفقد وعيه ولا يدرى ما يقول‏.‏
وكان بلال مولى أمية بن خلف الجمحي، فكان أمية يضع في عنقه حبلًا، ثم يسلمه إلى الصبيان، يطوفون به في جبال مكة، ويجرونه حتى كان الحبل يؤثر في عنقه، وهو يقول‏:‏ أحَدٌ أحَدٌ، وكان أمية يشده شدًا ثم يضربه بالعصا، و يلجئه إلى الجلوس في حر الشمس، كما كان يكرهه على الجوع‏.‏ وأشد من ذلك كله أنه كان يخرجه إذا حميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره في الرمضاء في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول‏:‏ لا والله لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزى، فيقول وهو في ذلك‏:‏ أحد، أحد، ويقول‏:‏ لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها‏.‏ ومر به أبو بكر يوما وهم يصنعون ذلك به فاشتراه بغلام أسود، وقيل‏:‏ بسبع أواق أو بخمس من الفضة، وأعتقه‏.‏
وكان عمار بن ياسر رضي الله عنه مولى لبني مخزوم، أسلم هو وأبوه وأمه، فكان المشركون وعلى رأسهم أبو جهل يخرجونهم إلى الأبطح إذا حميت الرمضاء فيعذبونهم بحرها‏.‏ ومر بهم النبي صلى الله عليه وسلم وهم يعذبون فقال‏:‏ (‏صبرًا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة‏)‏، فمات ياسر في العذاب، وطعن أبو جهل سمية أم عمار في قبلها بحربة فماتت، وهي أول شهيدة في الإسلام، وهي سمية بنت خياط مولاة أبي حذيفة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وكانت عجوزًا كبيرة ضعيفة‏.‏ وشددوا العذاب على عمار بالحر تارة، وبوضع الصخر الأحمر على صدره أخرى، وبغطه في الماء حتى كان يفقد وعيه‏.‏ وقالوا له‏:‏ لا نتركك حتى تسب محمدًا، أو تقول في اللات والعزى خيرًا، فوافقهم على ذلك مكرهًا، وجاء باكيًا معتذرًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ فأنزل الله :‏ {‏مَن كَفَرَ بِالله ِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ‏}‏الآية [‏النحل‏:‏ 106‏]‏‏.‏
وكان أبو فُكَيْهَةَ واسمة أفلح مولى لبني عبد الدار، وكان من الأزد‏.‏ فكانوا يخرجونه في نصف النهار في حر شديد، وفي رجليه قيد من حديد، فيجردونه من الثياب، ويبطحونه في الرمضاء، ثم يضعون على ظهره صخرة حتى لا يتحرك، فكان يبقى كذلك حتى لا يعقل، فلم يزل يعذب كذلك حتى هاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية، وكانوا مرة قد ربطوا رجله بحبل، ثم جروه وألقوه في الرمضاء وخنقوه حتى ظنوا أنه قد مات، فمر به أبو بكر فاشتراه وأعتقه لله‏.‏
وكان خباب بن الأرت مولى لأم أنمار بنت سِباع الخزاعية، وكان حدادًا، فلما أسلم عذبته مولاته بالنار، كانت تأتي بالحديدة المحماة فتجعلها على ظهره أو رأسه، ليكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، فلم يكن يزيده ذلك إلا إيمانًا وتسليمًا، وكان المشركون أيضًا يعذبونه فيلوون عنقه، ويجذبون شعره، وقد ألقوه على النار، ثم سحبوه عليها، فما أطفأها إلا وَدَكَ ظهره‏.‏
وكانت زِنِّيرَةُ أمَةً رومية قد أسلمت فعذبت في الله ، وأصيبت في بصرها حتى عميت، فقيل لها‏:‏ أصابتك اللات والعزى، فقالت‏:‏ لا والله ما أصابتني، وهذا من الله ، وإن شاء كشفه، فأصبحت من الغد وقد رد الله بصرها، فقالت قريش‏:‏ هذا بعض سحر محمد‏.‏
وأسلمت أم عُبَيْس، جارية لبني زهرة، فكان يعذبها المشركون، وبخاصة مولاها الأسود بن عبد يغوث، وكان من أشد أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن المستهزئين به‏.‏
وأسلمت جارية عمر بن مؤمل من بني عدي، فكان عمر بن الخطاب يعذبها وهو يومئذ على الشرك فكان يضربها حتى يفتر، ثم يدعها ويقول‏:‏ والله ما أدعك إلا سآمة، فتقول‏:‏ كذلك يفعل بك ربك‏.‏
وممن أسلمن وعذبن من الجواري‏:‏ النهدية وابنتها، وكانتا لامرأة من بني عبد الدار‏.‏
وممن عذب من العبيد‏:‏ عامر بن فُهَيْرَة، كان يعذب حتى يفقد وعيه ولا يدري ما يقول‏.‏
واشترى أبو بكر رضي الله عنه هؤلاء الإماء والعبيد رضي الله عنهم وعنهن أجمعين، فأعتقهم جميعًا‏.‏ وقد عاتبه في ذلك أبوه أبو قحافة وقال‏:‏ أراك تعتق رقابًا ضعافًا، فلو أعتقت رجالًا جلدًا لمنعوك‏.‏ قال‏:‏ إني أريد وجه الله .‏ فأنزل الله قرآنًا مدح فيه أبا بكر، وذم أعداءه‏.‏ قال تعالى‏:‏ {‏فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى‏}‏ [‏الليل‏:‏14‏:‏ 16]‏ وهو أمية بن خلف، ومن كان على شاكلته {‏وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى‏}‏ [‏الليل‏:‏17‏:‏ 21]‏ وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه‏.‏
وأوذي أبو بكر الصديق رضي الله عنه أيضًا‏.‏ فقد أخذه نوفل بن خويلد العدوي، وأخذ معه طلحة بن عبيد الله فشدهما في حبل واحد، ليمنعهما عن الصلاة وعن الدين فلم يجيباه، فلم يروعاه إلا وهما مطلقان يصليان؛ ولذلك سميا بالقرينين، وقيل‏:‏ إنما فعل ذلك عثمان بن عبيد الله أخو طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه‏.‏
والحاصل أنهم لم يعلموا بأحد دخل في الإسلام إلا وتصدوا له بالأذى والنكال، وكان ذلك سهلًا ميسورًا بالنسبة لضعفاء المسلمين، ولا سيما العبيد والإماء منهم، فلم يكن من يغضب لهم ويحميهم، بل كانت السادة والرؤساء هم أنفسهم يقومون بالتعذيب ويغرون الأوباش، ولكن بالنسبة لمن أسلم من الكبار والأشراف كان ذلك صعبًا جدًا؛ إذ كانوا في عز ومنعة من قومهم، ولذلك قلما كان يجترئ عليهم إلا أشراف قومهم، مع شيء كبير من الحيطة والحذر‏.‏


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.