اقترح أبو بكر الصديق رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرض الدعوة على بني شيبان. فقال أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم:"بأبي وأمي، هؤلاء غُرَر الناس، وفيهم (مفروق) قد غلبهم لسانًا وجمالاً". أي: بأبي أنت وأمي يا رسول الله -صلى الله عليك- هؤلاء بنو شيبان من أكابر العرب وأحسنهم، وزعيمهم "مفروق" يفضلهم حكمة وجمالاً. ومن ثَمّ توجه أبو بكر برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مخيم بني شيبان في عَرَصات الحج. وتقدّم أبو بكر فسلّم فقال: من القوم؟ قالوا: شيبان بن ثعلبة. فقال أبو بكر: كيف العدد فيكم؟ فقال مفروق: إنّا لا نزيد على الألف، ولن تغلب ألف من قلة. فقال أبو بكر: وكيف المنعة فيكم؟ فقال مفروق: إنا لأشد ما نكون غضبًا حين نلقى، وأشد ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد، والسلاح على اللقاح، والنصر من عند الله يديلنا مرة، ويديل علينا أخرى.. لعلك أخو قريش؟ فقال أبو بكر: إن كان بلغكم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فها هو ذا! فقال مفروق: إلامَ تدعونا يا أخا قريش؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأني عبد الله ورسوله، وإلى أن تُئووني وتنصروني، فإن قريشًا قد تظاهرت على الله، وكذّبت رسوله، واستغنت بالباطل عن الحق، والله هو الغني الحميد». فقال مفروق: وإلامَ تدعو أيضًا يا أخا قريش؟ فوالله ما سمعت كلامًا أحسن من هذا. فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 151]. فقال مفروق: دعوت -والله- إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قوم كذبوك، وظاهروا عليك.. ثم ردّ الأمر إلى هانئ بن قبيصة فقال: وهذا هانئ شيخنا، وصاحب ديننا. فقال هانئ: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، وإني أرى تركنا ديننا، واتباعنا دينك لمجلسٍ جلست إلينا، لا أوّل له ولا آخر - لذلّ في الرأي، وقلة نظر في العاقبة أن الزلة مع العجلة، وإنّا نكره أن نعقد على من وراءنا عقدًا، ولكن نرجع وترجع، وننظر.. ثم كأنّه أحب أن يشركه المثنى بن حارثة، فقال: وهذا المثنى شيخنا وصاحب حربنا! فقال المثنى -وأسلم بعد ذلك-: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، والجواب فيه جواب هانئ بن قبيصة، في تركنا ديننا ومتابعتنا دينك، وإنّا إنما نزلنا بين صَرَيَين أحدهما اليمامة والآخر السّمامة! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما هذان الصريان»؟ قال: أنهار كسرى، ومياه العرب، فأما ما كان من أنهار كسرى، فذنب صاحبه غير مغفور، وعذره غير مقبول، وإنّا إنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى، أن لا نحدث حدثًا ولا نؤوي محدثًا، وإني أرى هذا الأمر الذي تدعونا إليه -يا أخا قريش- مما تكره الملوك، فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب، فعلنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قولته التي أبان فيها سمة أساسية من سمات منهج الله تعالى، وعُمدة عميدة من عماد النظام الإسلامي، أنه شاملٌ لكل مجالات الحياة، وأنه جزءٌ واحد لا يتجزأ: «ما أسأتم في الرد إذ أفصحتم بالصدق! وإن دين الله عز وجل لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه. أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلاً حتى يورثكم الله تعالى أرضهم وديارهم ويفرشكم نساءهم، أتسبحون الله وتقدسونه؟» فقال النعمان بن شريك: اللهم فلك ذاك.