اتضحت الصورة أكثر من الأول.. نعم الحكاية قديمة.. هناك معارضة سياسية قوية.. معارضة شعبية جارفة.. وعدم قبول عام للوضع الحالى.. لم يحدث من قبل بهذه الدرجة. في نفس الوقت.. السلطة مصرة علي البقاء بأى شكل ومهما كان الثمن ومهما دفع الشعب من دماء وأموال.. ومهما تدهورت الأمور.. ومهما ضاع الوقت في هذا الصراع وما سيدفعه الشعب فى المستقبل من تضحيات وتأخر وضياع. نعم.. هذا الوضع الشاذ.. الشعب يعارض السلطة.. والسلطة مصرة علي العناد وضع قديم ومعروف.. ولكن بعدما حدث في هذا الأسبوع تحول الموقف إلي مواجهة صريحة واضحة.. كل طرف مصر علي موقفه حتي النهاية.. إذن ما الحل.. أصبح هذا هو السؤال. التاريخ يشهد بأن بعض الدول مرت بنفس هذا الموقف.. فماذا حدث؟ أبدأ بما حدث عام 1953 الذي أشار إليه الأستاذ هيكل في التليفزيون إشارة عابرة رغم أنه نفس الموقف بالضبط مع اختلافات يفرضها اختلاف العصر. بعد أربع سنوات وبضعة أشهر حكم خلالها إسماعيل باشا صدقى بالحديد والنار.. تحالفت الأحزاب كلها من أجل التغيير.. تماماً كما يحدث الآن.. رغم أن صدقى باشا خير اقتصادى عالمى جاء لينقذ البلاد من (الانهيار الاقتصادى) الذي اجتاح العالم عام 1931.. أفلست عدة دول وسادت المجاعة في دول أخرى.. فكان لابد من الاستعانة بإسماعيل باشا صدقي رئيسًا للوزراء ووزيراً للمالية.. فإذا بصدقى باشا يُغرق مصر في رخاء لم تشهده ولم تقدر عليه أي دولة في العالم.. أغني الدول عانت من انخفاض عملتها واهتز اقتصادها.. في نفس الوقت كانت مصر تنعم برخاء لم يتوقعه أحد في العالم كله. ما الذي فعله إسماعيل صدقى؟ زاد المساحة الزراعية لأبعد الحدود خاصة أن الفيضانات ساعدته كثيراً لكثرة المياه التي فاضت علي الجانبين حتي وصلنا إلي أن سموا مصر (سلة قمح العالم).. تصدير القمح أنعش الاقتصاد وكذلك القطن.. في نفس الوقت كان الموظف يتقاضى مرتباً سبعة جنيهات.. أي والله سبعة جنيهات!! وكان يعيش ملكاً.. لأنه بجنيه واحد يشترى خمسين رطلاً من أجود لحم.. كان الرطل بقرشين صاغ!! كان الجزار يسحب البقرة ويطوف بها في المساء بالشوارع وينادى: من ده بكره بقرشين!! ومبنى كورنيش الإسكندرية فأصبحت (عروس البحر الأبيض المتوسط).. وغير ذلك كثير. ولكن صدقي باشا حرم الناس من أهم ما يملكونه في الحياة.. وهي الحرية.. كان سجن الأجانب مليئاً بالصحفيين ورجال الفكر.. وكان البرلمان من باب المبالغة يقولون إنه (بالتعيين) عن طريق الانتخابات!! سأضرب لكم مثالاً.. في الوقت الذي يحشد فيه محمد مرسي ميدان رابعة العدوية بالأنفار المأجورة الذين يحضرون بالأتوبيسات من مختلف المحافظات ليهتفوا له.. قامت مظاهرة حاشدة من الموظفين والطلبة والفلاحين والعمال وذهبت إلي مبني وزارة المالية التي كان يفضل أن يدير صدقي باشا البلد منها.. وظلت تهتف لإسماعيل صدقى بحق فخرج عليهم في بلكونة مكتبه وقال لهم: - يا هتيفة كل وزارة.. يا منافقين كل حاكم.. ارجعوا من حيث جئتم!! ودخل مكتبه وقفل باب البلكونة!! ولما اجتمعت كل الأحزاب علي ضرورة التغيير وعودة دستور 1923 وإلغاء دستور 1930.. وضرورة إطلاق الحريات.. قدم صدقي باشا استقالته.. بل اعتزل الحياة السياسية حتي وفاته.. كان صدقي باشا ديكتاتورًا ولكن ديكتاتوراً مصلحاً أغرق بلاده في خير ربنا لتصبح أغنى دولة في العالم!! هذه هي الفترة التي ألف فيها أحمد شوقى قصيدته الشهيرة: إلم الخلف بينكم إلام وهذى الضجة الكبرى علام فيم يكيد بعضكما بعضاً وتبدون العداوة والخصام ماذا فعله ائتلاف الأحزاب بعد خروج صدقى باشا؟.. تم تشكيل وزارة ائتلافية من كل الأحزاب لإجراء انتخابات حرة تماماً بعد طول كبت وطغيان.. وفاز الوفد بأغلبية ساحقة.. ونجح مصطفى النحاس في الحصول على استقلال مصر بمعاهدة 1936 الشهيرة. وبعد.. هل يمكن أن يعيد التاريخ نفسه؟ لو تكلم التاريخ!! لو نطق التاريخ!! لصرخ في وجهى ويقول لى: حرام عليك.. هل تقارن إسماعيل باشا صدقى أحد أكبر اقتصاديى العالم بالدكتور محمد مرسى.. لو كان صدقى باشا حياً وقرأ هذا الكلام لانتحر!!.. رجل عمل ما لم يعمله أحد ثم اعتزل الحياة.. تماماً مثل شارل ديجول وسوار الذهب وغيرهما.. ناس دخلوا التاريخ وناس سيلفظهم التاريخ.. هناك فرق كبير.