ثارت في الفترة الأخيرة منذ نجاح الثورة المصرية وانتهاء دولة الاستبداد الذي هيمنت علي الحياة في مصر قرابة ستة عقود منذ ثورة الضباط الأحرار في يوليو عام 1952 واستيلاء العسكر علي السلطة والحكم في مصر أسئلة حول شكل الحكم في مصر وهل الإسلام يتعارض مع الدولة المدنية التي تقوم علي المساواة واحترام القانون والعدالة والكرامة الإنسانية، وحقيقة الأمر أن الأديان عمومًا والإسلام خصوصًا باعتباره خاتم الأديان والرسالات السماوية قامت علي المساواة بين البشر وهو ما تؤكده نصوص القرآن مثل قوله تعالي في سورة النساء:" يا أيها الناس اتقوا الله الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء " فالخالق عز وجدل يذكرنا بالأصل الواحد للبشرية، أما قضية التقوي فمعيار قلبي بين الإنسان وربه لا يمكن لأحد أن يزعم لنفسه فيه فضل أو ميزة عن آخر، ويؤكد الإسلام علي معيار آخر في هذا الشأن وهو أن التعدد والتنوع في الفكر والاعتقاد حكمة إلهية كقوله تعالي في سورة هود "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة " وقد تكرر ذلك المعني كثيراً في القرآن ليؤكد علي أن هذا التنوع والتعدد في الفكر والرؤي والعقائد ليس مجالاً للسخرية أو الاستهزاء بالمخالفين من الأمم والأديان الأخري، وإذا كان الإسلام يؤكد علي الأصل الواحد للبشر رغم اختلاف الأشكال واللغات والأديان فإنه يؤكد من ناحية أخري كعقيدة ورسالة خاتمة علي وحدة الرسالات السماوية من حيث المصدر والهدف، فمصدر كل الأديان واحد وأنها من الخالق عز وجل الذي اصطفي بعض عباده لتبليغ دينه إلي الناس، كما أن هدف كل هذه الرسالات واحد وهو عبادة الله وحده لا شريك له. يؤكد الإسلام علي كرامة الإنسان وحريته كما في قوله تعالي في سورة الإسراء " ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم علي كثير ممن خلقنا تفضيلاً" وركز علي حرية الاعتقاد في أكثر من آية بقول قاطع لا يقبل التأويل أو التشكيك في قوله عز وجل " لا إكراه في الدين " كل هذه قيم أصيلة في الإسلام وهي قيم إنسانية بالدرجة الأولي تؤكد علي احترام الإسلام من خلال أصوله علي هذه القيم المدنية ومن خلال الممارسة منذ أنشأ الرسول »ص« دولة المدينة كانت أسس هذه الدولة مدنية بالدرجة الأولي ودستور المدينة يؤكد علي المواطنة باعتبارها الوعاء الجامع لجميع أبناء هذه الدولة، وظل الحال علي هذا المنوال في تاريخ الدولة الإسلامية عاش المسيحيون واليهود جزءاً أصيلاً من كيان هذه الدولة يتمتع بكامل حقوقه كمواطن وتؤهله قدراته لتولي أعلي المناصب فكان منهم الوزير والحاجب والطبيب الخاص للملوك والأمراء وشاركوا في نهضة وبناء الحضارة الإسلامية كجزء من أبناء هذه الأمة في كافة فروع العلوم والفنون، ولم تعرف بلادنا في تاريخها دولة دينية بدليل حينما جاء الغرب منذ الحروب الصليبية كانت الأقليات الدينية وخصوصا المسيحيين يرفضون التعاون معهم ويرفضون فكرهم والتاريخ الحديث يؤكد ذلك لدرجة أن اللورد كرومر حاول كثيرا اللعب علي هذا الوتر في مصر أثناء الاحتلال الانجليزي لكنه فشل لوطنية المسيحيين ورفضهم الاستماع إليه فقال مقولته الشهيرة لا فرق بين المسلم والمسيحي في مصر، غير أن المسلم يذهب للمسجد يوم الجمعة والمسيحي يذهب للكنيسة يوم الأحد ومازالت مقولة القطب القبطي الشهير مكرم باشا عبيد تدوي حينما قال أنا مسيحي دينًا مسلم حضارة، وكان يحفظ القرآن ويتقن العربية كعربي مسيحي والبابا شنودة شاعر كبير وخريج قسم اللغة العربية وقضية الدولة الدينية غريبة علي فكرنا وتاريخنا ولم يعرف الإسلام في تاريخه دولة دينية ثيوقراطية كما كان الشأن في أوروبا في العصور الوسطي وهي التي كان يحكم فيها الحاكم باسم الإله ويكون الحاكم فيها نائبًا عن الله وتكتسب قوانينه وأحكامه قداسة مطلقة باعتباره معصومًا من الخطأ ولذلك ثارت عليه أوروبا كلها وشهدت أوروبا في عصر النهضة انقلاباً شامل علي هذا الفكر وشهدت ميلاد الدولة المدنية والدليل علي أن الإسلام لا يعرف الدولة الدينية أن الدولة المدنية في الغرب حينما ولدت استمدت قوانينها من الفقه الإسلامي وخصوصا الفقه المالكي المنتشر في شمال إفريقيا، وكما هو الحال في القانون الفرنسي وهذا معلوم لأساتذة القانون والعلوم السياسية وربما يخشي البعض من أنصار الفكر الليبرالي أو القومي أو من إخواننا الأقباط من دولة ولاية الفقيه كما هو الشأن في إيران وهو قريب الشبه بدولة دينية يجلس علي رأسها فقيه أو إمام له العصمة في الفكر الشيعي وهو ما يخالف تماما الفكر السني في الإسلام لأن في الفكر السني لا عصمة لأحد غير الرسول محمد صلي الله عليه وسلم وكل من عداه من المسلمين يؤخذ من قوله ويرد وينبغي علي الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية أن تكون واضحة في برامجها، فلن نقبل بنموذج إيراني آخر في مصر ولقد كان المجلس العسكري واضحاً وحازما في هذا الأمر حينما أعلنت أنه لن يقبل بخوميني آخر في مصر وأظن أن أقرب شكل نحتاجه في مصر هو دولة مدنية بها أحزاب سياسية لها مرجعية إسلامية كما هو الشأن في تركيا وماليزيا كدول عصرية ومنفتحة علي العالم وتستوعب جميع الطوائف والتعددية الدينية علي أساس المواطنة والأحزاب السياسية ذات المرجعية الإسلامية بهذه الدولة لها تجارب ناجحة في مجال التنمية البشرية والاجتماعية والاقتصادية، واستطاعت أن تكتسب الجماهير لصفها عن طريق العمل الدءوب لصالح نهضة بلادها وليس من خلال الشعارات الرنانة والخطب الجوفاء والدخول في مهاترات تشغل الوقت وتعمل علي تهتك نسيج الوطن في أمور فرعية تزيد من الفرقة ولا تسعي للوحدة والتئام الصف سواء بين أنصار الفكر الليبرالي والقومي وبين التيارات الإسلامية من جهة أو بينها وبين الأقباط من جهة أخري. ونرجو أن تتواجد كل التيارات الإسلامية في مصر تحت مظلة الأزهر باعتباره المرجعية الإسلامية لنا في مصر والذي يثق فيه الجميع من كافة التوجهات والطوائف باعتباره يعبر عن الوسطية ويحارب التطرف والغلو. *رئيس قسم الفلسفة الإسلامية كلية دار العلوم/ جامعة الفيوم