ارتبطت مصر بنهر النيل منذ أقدم العصور ولعل هذا ما دفع هيرودت المؤرخ الإغريقي الشهير إلى إطلاق عبارته الشهيرة عن كون مصر هبة النيل، ولنا أن نتصور مصر بدون نهر النيل وكيف تكون صحراء جرداء، فالنهر بالنسبة لمصر هو شريان الحياة وهو الموضوع الأول في سلم أولويات الأمن القومي المصري، ولذلك فلقد أطلق العديد من الباحثين على مصر وما يماثلها من دول اصطلاح «مجتمع النهر» أي تلك المجتمعات التي يلعب النهر فيها دورا محوريا سواء من الناحية الاقتصادية أو السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية، ولذلك فإن مصر ومنذ العصر الفرعوني القديم قد شهدت وعرفت درجة من التقدير والاحترام للنهر وصلت إلى حد تقديم القرابين للنهر دلالة على مدى أهميته لمصر كما كان للنيل احتفال سنوي للاحتفاء بالنهر مصدر الخير والنماء، كما كان لنهر النيل تأثيره الكبير على شكل السلطة في مصر فهي سلطة مركزية قوية في أغلب الفترات التاريخية حتى يمكنها التعامل مع النهر ومواجهة أضراره وزيادة منافعه من خلال مشروعات الرى والصرف والسدود والخزانات وغيرها من المشروعات المرتبطة بالنهر ،بل إن مصر في نهضتها الحديثة والتي بدأت في اوائل القرن التاسع عشر اعتمدت على صناعات مرتبطة بالزراعة، ولذلك كان النيل أيضا مؤثرا على الصناعة اضافة لتأثيره على الزراعة، وطالما خاطبه شعراء وأدباء مصر وفنانوها معبرين عن الارتباط الوثيق بين النهر والإنسان المصري والعلاقة الوثيقة بينهما. ونظرا لهذه الأهمية الحيوية لنهر النيل في حياة مصر وأهلها فإن الأمر كان يتطلب دائما أن تتوجه السياسة المصرية نحو الجنوب أي نحو القارة الأفريقية بصفة عامة ودول منابع النيل بصفة خاصة وأن تقوى علاقاتها بتلك الدول تحقيقا للمنفعة المشتركة والمصالح المتبادلة، ولكن العقود القليلة الماضية شهدت تراجعا في الاهتمام المصري بالقارة الأفريقية، وأدى هذا التراجع أو الغياب للدور المصري في القارة السمراء إلى ايجاد نوع من الفراغ والذي حاولت قوى وأطراف أخرى دولية واقليمية شغله سواء لتحقيق مصالحها أحيانا أو للضغط على مصر في أحيان أخرى، وترتب على ذلك الغياب المصري تداعيات خطيرة وصلت إلى قمتها في انفصال جنوب السودان وتحول السودان إلى دولتين حتى الآن،كما أدي لغياب المصري عن منطقة المجال الحيوي إلى نتائج سلبية على قوة العلاقات بين مصر وأثيوبيا، وبدأت أثيوبيا تتبع سياسات منفردة في تعاملها مع النهر وبتشجيع من بعض القوى والأطراف الدولية وبتمويل منها وتمثل ذلك في العمل على بناء السد الذي أطلق عليه سد النهضة وهو ما يمكن أن يمثل أضراراً مستقبلية لمصر حددها الخبراء في جوانب متعددة لعل أهمها وأخطرها التأثير على حصة مصر من المياه، حيث ذهبت الدراسات إلى أن هذه الحصة ستتقلص بنسبة 20% سنويا لمدة ست سنوات وهي الفترة المفترضة لبناء السد، كما أن انخفاض حصة مصر من المياه سيصاحبه انخفاض في الطاقة الكهربائية الناتجة من السد العالي وقناطر نجع حمادي بإجمالي عجز سنوي يصل إلى 40%من الطاقة الكهربائية،والخطورة هنا أن مصر تعاني فعلا من مشاكل في المياه والكهرباء وستزداد حدة هذه المشاكل بالضرورة إذا تناقصت حصة مصر من المياه نتيجة لانشاء سد النهضة وغيره من السدود الإثيوبية المزمع انشاؤها وقد يترتب على ذلك تبوير مساحات من الأرض الزراعية والتأثير على الإنتاج الزراعي وزيادة الفجوة الغذائية وتأثر السياحة النيلية وتوقف مشروعات الاستصلاح في سيناء وغيرها من المناطق الصحراوية فضلا عن تملح المياه الجوفية. ونظرا لهذه الآثار السلبية المحتملة فإن الأمر يتطلب تحركاً مصرياً عاجلاً وعلى أعلى مستوى وعلى محاور متعددة حفاظا على الأمن القومي المصري وعلى الأمن المائي للبلاد، فنهر النيل ومياهه هو قضية حياة أو موت لمصر وللمصريين، مع ملاحظة أن هذا الموضوع ليس من اختصاص وزارة الري وحدها بل هو أمر يتطلب مشاركة كافة مؤسسات وأجهزة الدولة خصوصا وزارة الخارجية والأمن القومي والرئاسة والحكومة، كما يتطلب الأمر أيضا التنسيق الكامل بين مصر والسودان باعتبارهما دولتي مصب، كما قد نحتاج إلى أن يكون هذا التحرك السياسي والدبلوماسي متعدد الأبعاد والمستويات أي في اطار الجامعة العربية ،ودول حوض النيل، والمنظمة الأفريقية، والمنظمة الدولية، كذلك ربما يكون من المفيد مخاطبة الدول الممولة لمشروع السد الأثيوبي، حيث إن اثيوبيا لا تستطيع تمويله بقدراتها الذاتية، ويكون من المرغوب فيه دائما توضيح وجهة النظر المصرية والاتفاقيات المنظمة لنهر النيل باعتباره من الأنهار الدولية وهي اتفاقية 1929، بالإضافة إلى معاهدة 1959 بين مصر والسودان، حيث إن هذه الاتفاقيات تضمن الحقوق المصرية في مياه النهر وتمنع قيام أي دولة من دول المنبع بإنشاء سدود تؤثر على حصص مياه الأطراف الأخرى وخصوصا دول المصب دون الرجوع اليها وموافقتها،ويمكن اللجوء إلى المنظمة الدولية وكذلك إلى الوساطة والتوفيق والتحكم وهي من الأدوات المتبعة لفض المشاكل والمنازعات بين الدول، كذلك يمكن اللجوء إلى الدبلوماسية الشعبية،وإلى الكنيسة الأرثوذكسية المصرية بما لها من تأثير روحي في أثيوبيا. كذلك مطلوب وضع سيناريوهات وبدائل تحقق المصلحة المصرية وتكفل حقوق مصر في الانتفاع بنهر النيل ومياهه وتتعامل مع كافة البدائل والاحتمالات المتصورة، مع توضيح أن مصر ليست ضد تنمية أثيوبيا ولكنها تدافع عن حقوقها الثابتة تاريخيا، مع ملاحظة إن دول المنبع وخصوصا اثيوبيا ليس لديها مشكلة في المياه بل لديها وفره فيها ومشكلتها الحقيقية في الكهرباء التي تعاني من النقص فيها، بينما مصر لديها مشكلة في المياه ولذلك قد يكون أحد السيناريوهات المطروحة للحل هي كيف يمكن توفير الكهرباء اللازمة لدول المنبع وخصوصا اثيوبيا دون التأثير السلبي على حصص المياه لدول المصب وخصوصا مصر. لقد أدى غياب مصر عن الاهتمام بأفريقيا في العقدين الآخيرين، والانقسام والاستقطاب الداخلي الذي شهدته في الفترة الماضية إلى هذه التداعيات والتي نحتاج في أسرع وقت ممكن إلى مواجهتها حفاظا على أمن مصر القومي وحقوقها في نهر النيل مصدر الخصب والنماء. أستاذ العلوم السياسية