تعيش مصر غداً ذكرى هزيمة 67 وما أقصاها من هزيمة بددت حلم جنرالات ثورة يوليو في قيادة العالم العربي وكبدتنا خسائر اقتصادية واستراتيجية وعسكرية لا مجال لتكرارها الآن، والغريب أن هذه الذكرى الأليمة تأتي هذا العام برياح مشابهة حيث تعيش مصر هذه الأيام في أجواء نكسة جديدة تتصل بشريان المياه العذب الوحيد الذي يغذي البلاد منذ فجر التاريخ، والنكسة هذه المرة أشد وطأة لأن احتلال المياه أخطر من احتلال الأرض، ومع أن المحرك والمستفيد واحد في النكستين، وهي إسرائيل، إلا أن تحركها الأخير في منابع النيل كشف عجز حكومة الإخوان في التعاطي مع القضايا القومية بعدما اكتفت الجماعة بالدعاء على المتسبب؟! وتقوم الاستراتيجية الإسرائيلية على أساس مبدأ في غاية الخطورة على الأمن المائي العربي، وهو «أن المياه مصدر استراتيجي تحت السيطرة العسكرية»، ولذلك سعت إسرائيل منذ البداية للسيطرة على مصادر المياه العربية، وتقول رئيسة وزراء إسرائيل السابقة «جولدا مائير»: «إن التحالف مع تركيا وإثيوبيا يعني أن أكبر نهرين في المنطقة «النيل والفرات» سيكونان في قبضتنا» وقد بدأت إسرائيل بتنفيذ خطتها لاستغلال المياه العربية منذ منتصف الستينيات وخاضت حرب يونيو 1967 من أجل هدف الوصول إلى المياه العربية، فاحتلت مصادر مياه نهر الأردن ومرتفعات الجولان، وأكملت ذلك بغزو لبنان عام 1982 لتكمل سيطرتها على نهر الليطاني. وبدأت إسرائيل تعبث بأصابعها في منابع النيل في محاولة للتأثير على حصة مصر والسودان من المياه، وهو واضح في قيام إسرائيل بتقديم العون لإثيوبيا لإقامة سدود على منابع النيل، كما عرضت على إثيوبيا شراء مياه النيل منها. ومن خلال مناقشات مؤتمر الأمن المائي العربي الذي اختتم أعماله في القاهرة في 23 فبراير 2000 اتضح أن إسرائيل أصبحت متواجدة في جميع الملفات المائية للدول العربية على النحو التالي: تسيطر إسرائيل على حوالي 80% من مياه الينابيع المتجددة في فلسطين والتي تقدر سنويًا بنحو 650 مليون متر مكعب، وتبيع ال 20% الباقية للشعب الفلسطيني بسعر دولار لكل متر مكعب، وفي الجولان السورية تستولي إسرائيل على 40% من المياه . أما في لبنان، أقدمت إسرائيل على مدّ خط أنابيب للمياه من نبع العين المتفرع عن نهر الجوز، وهو أحد روافد نهر الحاصباني، وتستغل بشكل كامل مياه الحاصباني والوزاني بمعدل 145 مليون متر مكعب سنويًا. والمعروف أن إسرائيل تستولي على مياه نهر الأردن والذي ينبع من الأراضي الأردنية وتمنع الأردن من إقامة أي سدود عليه، وفي اتفاقية السلام بين إسرائيل والأردن اتفق على أن تسمح إسرائيل للأردن بتخزين 20 مليون متر مكعب من المياه من فيضانات نهر الأردن ولكن إسرائيل لم تنفذ هذه الاتفاقيات مما جعل الأردن يعاني من نقص في المياه ويسعى لشراء مياه من تركيا. وبذلك يصبح واضحًا أن إسرائيل نصبت نفسها متحكمة بالموارد المائية العربية، كما يلاحظ أنها تواجه قسمًا من الدول العربية بشكل مباشر، وهو الأردن وفلسطين ولبنان وسوريا، وتواجه قسمًا آخر عن طريق تركيا، وهو العراق وسوريا أو عن طريق إثيوبيا وهو السودان ومصر. الغريب أن مؤتمر الأمن المائي العربي الذي عقد في القاهرة مطلع القرن الجاري وحضره خبراء المياه من مختلف الدول العربية كان قد نبه قبل 13 عاما إلى أن الاحتلال المنظم الذي تمارسه إسرائيل للمياه العربية لا يقل خطورة عن احتلالها للأرض، وأشار هؤلاء الخبراء إلى أن هذا التصرف ينبع من سياسة ثابتة للعدو الصهيوني، ولا يعبر عن موقف تكتيكي ظرفي. ووصف المؤتمر المشكلة بالقنبلة الزمنية التي يمكن أن تدق طبول حرب طاحنة في المنطقة.. فهل استعدت «الجماعة» لمثل هذه الحرب أم ستجرى تسوية مع «الأصدقاء» في تل أبيب يحصلون بموجبها على مياه النيل عبر سيناء مقابل أن يكفوا أيديهم عن اللعب في أعالي النيل بإثيوبيا؟.