اسمه مروان برزق، وفي أحيان أخرى مروان محمد برزق. عرفته أوائل التسعينيات، ولفت نظري حرف الباء في لقبه، فلا هو "رزق" كما نعرفه في أسماء شائعة، ولا "برزخ" أي "حاجز بين شيئين" كما في قوله تعالى: "بينهما برزخ لا يبغيان". أكرر قراءة الاسم، وأفكر في تخريجات جادة أو مضحكة. هل هو مقصود فعلًا، بمعناه القديم المهجور، كما ورد في لسان العرب: "بَرْزَق: واحدُ برازق وبرازيق؛ أي جماعات الناس"؟ هل هو خطأ موظف في شهادة الميلاد، وحالَ دون تصحيحه تعسفُ القوانين؟ أم أن أحد أجداده جاء إلى الدنيا مثلًا على غير رغبةٍ من أب فقير، فقالت له الأم: "بِرِزقه"، وصار من يومها لقب العائلة، بينما عدَّل الزمن حركات نطق الحروف وحذفَ الهاء للتخفيف؟ وُلِد في غزة سنة 1943 لأب شاعر ومعلم في مدارس بئر السبع. لجأ إلى مصر بعد شهور قليلة من هزيمة 1967، وعمل محررًا للأخبار في إذاعة فلسطينبالقاهرة، ثم رئيسًا لمكتب رعاية الطلاب الفلسطينيين في طنطا. له أربعة دواوين: "الرعد لن يموت" 1987 و"المدى والفصول" 1989 و"وطن بلون الشفق" 1992 و"يوم ممطر" 1997. هو شريك في مصير واحد مع حسيب القاضي وفواز عيد وعلي الخليلي ومحمد الأسعد ومحمد القيسي؛ الذين أكلت شُهرة محمود درويش لحمهم، وتركت لشهرة سميح القاسم مهمة "مصمصة" عظمهم. رأيته أول مرة في "أتيليه القاهرة". طويل وضخم. ضخم فعلًا لا مجازًا، مما يترك أثره على حركته البطيئة وضحكاته النادرة التي ترجُّ، لو ضحك، جسده كله. هي ليست الضخامة التي تشي بمرض أو شراهة، إنما التي تخبرك فورًا بأن صاحبها طيب القلب. يلبس دائمًا بدلة سفاري في الصيف، وقميصًا وبنطلونًا إضافة إلى بلوفر (بالمصري) أو كنزة (بالشامي) في الشتاء. الكركديه مشروبه المفضل، سواء كان باردًا أو ساخنًا. تأملته يومها يشرب جرعاته بلذة وبطء، وقلت لنفسي: "لابد أن لونه يذكِّره بالدم الفلسطيني"، لكنني أحس الآن أنني كنت مبالغًا أو رومانسيًّا، إذ يكفي أنه يحب طَعمه وفقط، ولا يحتاج مني إلى مجاز فج. أحببته حد أنني بعد انتهاء لقاءاتنا، كنت أقف أمام "جروبِّي" لأنظر إليه في جهة الشارع الأخرى، وأحس أنه مع كل خطوة من خطواته الثقيلة يعصر قلبي. مرة واحدة حاولت أن أحضنه، أو أنني أردت على الأصح أن يحضنني. انتهزت فرصة لقائنا بعد غيبة، واندفعت لأضمه، فشدَّ بيديه على كتفيَّ حتى لا أقترب، ولم أشعر بغضب أو إحراج. أدركت أنه، كلاجئ قضى معظم عمره غريبًا ووحيدًا، يريد لنفسه مسافة أمان أو حماية، ويعرف أن الحب غير المحكوم يمكن أن يربطه أو يورِّطه. عاد منتصف التسعينيات إلى غزة مع العائدين بعد أوسلو، وتولى هناك وظيفة عجيبة: "مسئول العلاقات الخارجية في السلطة الفلسطينية لدى الأوساط الثقافية العربية"، وهو منصب يتضح من طول مفرداته وترهلها أنه حبر على ورق؛ فارغ من مضمونه، ولفَّقوه له تلفيقًا. كنت كلما أكتب أخبارًا قصيرة في صحيفة "الوفد" عن مجيئه أو سفره؛ أترجَّى "محرر الديسك" حتى لا يحذف كلمة من كلمات منصبه العشر، فيتركه متأففًا كما هو كرامةً لخاطري، على أمل أن يشعر عمي مروان بالأهمية أو ربما السعادة. حين أصدرت ديواني الأول، أردت ألا يقرأه، وتهربت حتى لا أهديه نسخة منه. هو ابن هموم أخرى وشعرية مغايرة، وكنت واثقًا أنه لن يعجبه، حتى لو حلف لي على كتاب الله. أهديته سنة 1997، بدافع الحرج، ديواني "عجوز تؤلمه الضحكات" أثناء زيارته إلى القاهرة. زارني بعدها بعام، وأخرج ورقة من جيب بدلته بحرص وفرح شديد؛ هي صورة لمقال عن الديوان نفسه، كتبه الروائي الشاب وقتها ووزير الثقافة الفلسطيني لاحقًا، عاطف أبو سيف، في صحيفة "الحياة الجديدة". أهداني بدوره ديوانه الجديد "يوم ممطر" ووعدني بأن نلتقي ثانية ليعرف رأيي فيه، ولن يسافر فجأة كعادته دون أن أراه. قرأت الديوان بدقة تامة، ولم أجد ما يناسب ذائقتي المختلفة أو المتطرفة في ذلك الوقت. أعدت قراءته مرة أخيرة، ونجحت في اصطياد أربعة سطور، رأيتها كافية تمامًا لأرد اعتباره: "حصاني الجامح فجأةً استهوته حلبةُ السباق لا يعبأ بالرهان الخاسر سَلِس القِياد" حين أتى في الموعد، كنت أعددت عدتي، ولم أمهله ليمسح عرقه أو يستريح من إرهاق سُلم "الوفد" الطويل. نظرت فورًا في عينيه بحدة وغضب، وقلت بمنتهى السخرية: "درويش يقول: لماذا تركت الحصان وحيدًا.. هاه؟!"، وأتبعتُها بنبرة شديدة الجدية مع خبطة عنيفة بيدي على الطاولة: "أنت تقول: الحصان نفسه انتهى، تعِب!". أضاء النور وجه عمي مروان كله، ولا أعتقد أن الكذب يمكن أن يكون في أي يوم حلالًا إلا في ذلك اليوم. سألت عنه مرة زياد خداش، فقال بحنان: "أبو محمد، إي، أعرفه"، وخمَّنت أنها كُنية لأن عمي مروان لم يكن له ولد اسمه "محمد" مثلما لم يكن عند ياسر عرفات ولد اسمه "عمَّار". كأنَّ الفلسطينيين ينسبون ولدًا وهميًّا أو معنويًّا لكل أعزب منهم، لأن الذريَّة سلاح لامتلاك الأرض في مواجهة لصوص الأرض. أما باسم النبريص فيذكره بسطر في مقال عن محمد عفيفي مطر. يقول إن عفيفي حكى له ذكرياته الطريفة معه، ووصفه بأنه: "أكبر شاعر طفل رأيته في حياتي". يذكره أيضًا محمد مستجاب بجملة في مقال حول معنى كلمة "المروءة" ويدرج اسمه ضمن مشتقاتها: "الصديق الذي لم أعد أسمع عنه شيئًا، الشاعر الفلسطيني مروان برزق، والذي عاش فترة في مصر، ثم عاد إلى فلسطين وطنه الأثير، وانقطعت أخباره". محمد أبو دومة كذلك كتب عنه مشكورًا قصيدة طويلة، لكنني لا أظن أنه كان سيفرح بها لو رآها. إنها تحاول الربط بين عبد الملك بن مروان ومروان محمد برزق، لتوضح لنا الفرق بين مجد عربي غابر وحضيض واقعٍ راهن. أنا لا أرى علاقة أساسًا بين خليفة عاش ومات وسط قصوره وزوجاته وجواريه وأبنائه وفتوحاته، وبين رجل قضى حياته في المنفى بلا زوجة واحدة أو ابن واحد؛ مُشتبَه به دائمًا، ويكمل عشاءه بكاء. صحيح أن جسد عمي مروان ضخم ويعطي إحساسًا بأنه يحتمل، لكن ليس لدرجة احتمال هذا التراث الثقيل. حكايته التي لم يكن يملُّ من ترديدها، هي أن طفلة صغيرة عرفته حين سافر مرة إلى الأردن. يقول بفخر: "إي والله عرفتني". يكررها لي في كل لقاء تقريبًا: "إي والله عرفتني يا عماد. والله قالت لي انت عمي مروان". يغمض عينيه، ويقول: "آه لو اشوفها مرة تانية بس"، وحين يفتحهما ألمح لمعة خفيفة من الدموع. أما الحكاية التي حكاها لي في لقائنا الأخير، فهي هكذا: حين عاد إلى غزة بعد منفاه الطويل؛ تاه عن بيت عائلته. ركب سيارة تاكسي، وظل يبحث عن العنوان في الشوارع. مرَّ السائق بالخطأ وسط المقابر، فوجد نفسه فجأة أمام قبر أبيه. لم أجد صورة شخصية ولا جماعية لعمي مروان على شبكة الإنترنت، لا مقال ولا دراسة عن شعره، ولا دواوين إلكترونية. عثرت بصعوبة على صورة هويَّته، وفيديو ثلاث دقائق من أمسية يلقي فيها قصيدتين، يقول في إحداهما: "الزنزانة عائلتي". عثرت أيضًا على خبر وقصيدة؛ كتبهما عبد الحكيم أبو جاموس سنة 2003. هذا هو الخبر كله: "اختطف الموت صباح الأربعاء الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر، الصديق الشاعر مروان برزق، فرحل عنا صديق وأخ كريم سنظل نفتقده". وهذه هي نهاية القصيدة: "وارقد أبديًّا في حضنِ المجدْ لن تحجبَ نورَ بهائكَ عنا ظلمةُ لَحْدْ".