تغيرت عادات القرية المصرية كما تغيرت ملامحها، تلاشت أفران الطين منها شيئًا فشيئًا لتحل محلها أفران الغاز، واختفت معها عادات وتقاليد وموروثات دامت مئات وربما لآلاف السنين فى ربوع المحروسة. هنا تكتشف أن القرية فقدت بهجتها كما فقدت الأسر الرعيل الأول من أُناس الزمن الجميل، لم تعد أفرانٌ تُحمى ولا نار تُوقد ولا أدخنة تتصاعد إلى السماء، هدمت الأفران واختلطت رائحة الطعام بالغاز أكثر فأكثر. التقت «الوفد» بأصحاب مخابز تصنع كعك العيد، للوقوف على آخر الأسعار وما آل إليه التقدم والتكنولوجيا الذى بات يضرب بيده فى عادات وتقاليد وموروثات قرانا ليفقدها زينتها وأصلها. ربات البيوت وتشتكى ربات البيوت من الأسعار التى تكوى جيوب عائلاتهم وتمنعهم من الإفراط فى تلبية رغبات الأبناء من حلوى عيد الفطر وغيره من مستلزمات، فمن كانت تسوى 10 كيلو من الكعك والبسكويت اكتفت بخمسة فقط، ومن كانت تسوى خمسة كيلوات، أصبحت تسوى ثلاثة فقط، كله وفق الميزانية والقدرة على تأمين الأموال لتحقيق آمال أطفالهن. وتقول إحدى ربات البيوت، إن ارتفاع الأسعار تسبب فى أزمة كبيرة لهم خلال شهر رمضان، خاصة فى تلبية احتياجات العيد من كعك وبسكويت وغيره، مسترسلة: اضطررنا إلى شراء بعض الكيلوات من الكعك والبسكويت لإرضاء أطفالهن، وتؤكد أن الإقبال على الجاهز أو الشراء بالوزن أكثر لأنه بنفس تكلفة المنزل ويخرج من الفرن بجودة أفضل. لم أجد هناك غير بيتٍ من الصامدين لديهم بقايا من الموروثات والعادات العتيقة، تجلس المرأة الستينية خلف زوجة ابنها، ترص لها الصاج بالكعك، لتسويته فى فرن الغاز، بعد أن عجنته فى المخبز الآلى القريب من منزلها مقابل «مصنعية» 10 جنيهات للكيلو، مسترسلة: «أنها عادة وكل سنة وإحنا طيبين»، أما عن الفرن الطين، فتقول: «دا عايز الصحة والحيل الشديد، والجيل الجديد ميقدرش على القعدة أمامه». ويقول عمر الصعيدى، عامل بمخبز وحلوانى بقرية العزيزية التابعة لمدينة البدرشين جنوبالجيزة، إن إقبال الأسر على شراء الكعك والبسكويت طفيف مقارنة بالسنوات الماضية، بسبب غلاء الأسعار، وستات البيوت أصبحن يفضلن عجن الكعك فى الفرن وتقطيعه وتسويته فى المنزل. وأضاف الصعيدى أن الأسعار ارتفعت إلى الضعف تقريبًا، وبلغت أسعار الكعك الجاهز، 85 جنيهًا للكيلو والبسكويت 90 جنيهًا، والبيتيفور 95 جنيهًا، والغُريبة 90 جنيهًا، أما قُرص البلح فتباع ب65 جنيهًا. يتابع: «أن الأسعار فى وزن كيلو الدقيق الصافى الكعك ب120 جنيهًا والبسكويت ب125 جنيهًا والغُريبة ب130 جنيهًا والبتيفور ب150 جنيهًا والقُرص ب100 جنيه، وكيلو الدقيق يعطى كيلو ونصف الكيلو من أى منتج». ويضيف الصعيدي: «أن مكونات كعك العيد يحتاج كيلو الدقيق إلى نصف كيلو سمنة وربع زجاجة زيت والخميرة ونصف كيلو سكر، والبسكويت نفس المكونات بالإضافة إلى 8 بيضات بلدى، والبتيفور نفس مكونات البسكويت». ويوضح أنه يأخذ 10 جنيهات على عجن كيلو الدقيق، و10 جنيهات تسوية فى الفرن، وفى حال إضافة خميرة، نأخذ 35 جنيهًا تشمل سعر كيلو دقيق والخميرة والمصنعية والتسوية، على أن تكون السمنة والسكر والزيت من بيت الزبون». ويقول نبيل الطنب، صاحب مخبز لصناعة الكعك والبسكويت، بقرية ميت على مركز الزقازيق بمحافظة الشرقية، إن أغلب الأهالى فى القرى تلجأ إلى عجن الكعك والبسكويت فى المخبز الآلى وتسويته مقابل المصنعية، لأنه يكون مثل «كعك العروسة»، على أن تجلب ربات البيوت مستلزمات الكعك والبسكويت من دقيق وسمنة وسكر وزيت من منازلهن. أسعار كعك العيد وكشف نجله إسلام طالب بكلية الطب جامعة الزقازيق والذى التقيناه وهو يساعد والده فى عمل الكعك والبسكويت خلال «زحمة العيد»، أن أسعار كعك العيد مرتفعة إلى حدٍ ما، ما جعل هناك نوعاً من الركود حتى الآن. ويضيف إسلام نبيل: ربما لم يشهد الموسم إقبالا كثيفًا بعد، ولكن غالبا بعد يوم 25 رمضان يزداد عدد الزبائن على المخبز لعمل كعك العيد، ويواصل أن سعر كيلو البسكويت الجاهز بلغ 100 جنيه، وكيلو الكعك ب90 جنيهًا، أما البتيفور والغُريبة فتباع بسعر 150 جنيهًا». أصل الكعك فى مصر ويكشف الدكتور أيمن فؤاد، أستاذ التاريخ الإسلامى، أصل الكعك فى مصر، قائلًا: إن الاحتفالات بقدوم شهر رمضان وليالِيه ترجع إلى فترة حكم الفاطميين لمصر، فالمصريون ورثوا الكثير من التقاليد الشائعة خلال شهر رمضان حتى الآن عن الفاطميين». ويشير أيمن فؤاد إلى أن مكان الصاغة الحالى، كان يتواجد مطبخ القصر الفاطمى الكبير، وأمامه باب يُسمى «الزمومة» أو باب الزفر، تدخل منه اللحوم والخضراوات ومستلزمات الطهى، ويواصل: مقابل المشهد الحُسينى كانت تتواجد «دار الفطرة» التى تجهز الحلوى خلال شهر رمضان، وتستعد لعمل كعك العيد. وأضاف كانت «دار الفطرة» توفر كل مستلزمات كعك العيد من سكر ودقيق وسمن وزيت من أول شهر رجب، ويوضح أن الكنافة والقطايف كمصطلح لم تكن موجودة فى عصر الفاطميين، ولكن كانت تستخدم محلها مصطلحات أخرى، مثل: الخُشخاشنج وهى عبارة عن رقاق يُحشى فستق أو لوز، بالإضافة إلى البسنتود والفانيد. كعك الدينار ويسترسل «فؤاد» قائلا: أن «دار الفطرة» اشتهرت بعمل كعكة تسمى «إفطر له»، يكون بداخلها دينار أو لوز، وتوزع على الناس يوم العيد، وكانت الإضاءة والزينة فى الشوارع مهمة للغاية فى العصر الفاطمى. ليالى الوقود الأربع ويحكى أن الفاطميين اشتهروا بليالى الوقود الأربعة، وهي: أول رجب ونصف رجب وأول شعبان ونصف شعبان، أما شهر رمضان فكان يُعامل كليالى الوقود الأربع كاملًا، حيث تضاء كل المآذن وتمتلأ الشوارع بكل أنواع الإنارة. صلوات ثلاث جُمع ويوضح أن من عادات الفاطميين فى شهر رمضان ركوب الإمام لأداء ثلاث صلوات جُمع، منهم صلاة فى جامع الأنور أو الحاكم بأمر الله، وصلاة فى الجامع الأزهر، وصلاة فى جامع عمرو بن العاص. ويتابع أيمن فؤاد، أن أصول الاحتفالات بشهر رمضان وكعك العيد ترجع للفاطميين، والدليل أنها مختلفة عن العراق والشام، كما وطدوا الاحتفالات بالموالد وليال الوقود الأربع. ويضيف: «ستجد الكثيرين من العرب والدول الإسلامية حريصين على قضاء شهر رمضان فى مصر لأن له بهجة وزخم مختلف عن أى بلد إسلامى آخر، ويؤكد أن هناك موروثات تستمر فى ضمير الشعب من عصر المصرى القديم وحتى الآن، ومنها: طريقة الحديث والحوارات». الاحتفالات الدينية خلال عيد الفطر يقول أستاذ التاريخ الإسلامي: «إن هناك اختلافات بين الدولة الفاطمية فى مصر وبين الدول الإسلامية التى نشأت فى سوريا مع الأمويين وفى العراق مع العباسيين، فالحاكم فى مصر كان يسمى بالإمام، أما فى الدولة العباسية والأموية فكان خليفة» وهذه الاختلافات ظهرت أيضاً فى مظاهر الاحتفال بالمناسبات الدينية، حيث كان الفاطميون أحرص على هذه الاحتفالات». ويشير إلى أن المصريين لم يتشيعوا، ووجد الفاطميين مقاومة شديدة منهم، فأرادوا إلهاءهم فى مظاهر الاحتفالات بشهر رمضان وطقوس عيد الفطر، لمنع إعاقة دعواهم وخططهم خارج مصر باليمن وعُمان وغرب الهند. ليلة الرؤية ويؤكد «فؤاد» أن الفاطميين ليس لديهم ما يُعرف بليلة الرؤية، ورمضان ثلاثين يومًا لا جدل فى ذلك، ولا اعتراف بهلال كامل أو ناقص، والاحتفالات بليلة الرؤية ترجع لأهل السنة فى مصر، مسترسلًا: «أن قاضى القضاة عندما خرج لاستطلاع الرؤية بعد قدوم الفاطميين لمصر منعه رجال جوهر الصقلى». موكب أول يوم رمضان ويوضح أن الفاطميين كان لديهم ما يعرف بموكب احتفالى فى أول يوم رمضان، بالإضافة إلى «موكب أول العام»، وهو يشبه إلى حد كبير الاحتفال ب«ليلة رأس السنة»، وفيها يخرج الأئمة الفاطميين ضمن احتفال كبير. وبدأت الاحتفالات مع وصول الأئمة الفاطميين لمصر، عبر موكب أول يوم رمضان، ثم قراءة القرآن 27 ليلة وعمل «سيماط أى ولائم» فى «قصر الذهب» 27 ليلة من يوم 4 إلى يوم 30 رمضان، وكانت القاهرة محصنة وأشبه بالحصن للبيت الفاطمى ومن له علاقة به والبلاط.