احمد القديدي على ارتفاع آلاف الأميال من سطح الأرض والبحر وعلى متن طائرة تحملني من قارة إلى قارة منذ أيام قليلة شاهدت على جهاز البث الشخصي شريطا جديدا هو آخر ما أنتجته هوليود في سلسلة (جيمس بوند..العميل 007 جاسوس صاحبة الجلالة ملكة بريطانيا) والشريط كما يعلم القراء الأفاضل لاقى رواجا تجاريا كبيرا في بلدان العالم لا فرق بين شرق وغرب ولا بين مسلم ومسيحي ولا بين يهودي وبوذي لأن الدعاية المدوية التي سبقت ورافقت خروجه على الشاشات البيضاء صاحبتها الأغنية الجميلة التي وضعوها لتسويق الشريط وتغنيها المطربة (أديل) وهي بنفس عنوان الشريط (سكاي فول). وبصراحة فهذا العمل السينمائي ليست له إضافات فنية أو تكنولوجية مميزة بل هو استمرار لما شهدته وأبدعته السينما الأمريكية منذ عشرين عاما من تقنيات الإيهام بالحركة (أكشن) أو بالخوارق كما في سينما غزو النجوم وحروب الكواكب وصناعة البشر الكرتوني الذي لا يموت ولا يبلى بل يتجدد وينتصر ويسحق ويبعث من جديد من صنف الإنسان العنكبوت (سبايدر مان) أو الإنسان الوطواط (بات مان) وسواهما من مبتكرات الأدب الخيالي (فيكشن) الذين ألفهم أبناؤنا واليوم أحفادنا كرمز من رموز تواصل الاستعلاء الثقافي الغربي من خلال ترسيخ الخرافة وتجارة الوهم. لكني حين شاهدت (سكاي فول) هذه المرة وجدت نفسي مضطرا لإجراء المقارنة بينه وبين أول شريط من سلسلة (جيمس بوند) التي كان الممثل البريطاني الشهير (شين كونري) يمثل فيها دور البطولة ومنها شريط ظهر على الشاشات منذ نصف قرن هو(قبلات حارة من روسيا) الذي أنتجه تيرنس يونغ سنة 1963عن روايات بوليسية للكاتب إيان فليمنغ. وتساءلت عن التطور العجيب الذي طرأ على طبيعة العلاقات الدولية على مدى خمسين عاما (من 1963 إلى 2013) لأن هذه السلسلة الجيمس بوندية رغم طابع الجاسوسية ونوازع العنف ومظاهر المغامرة تبقى مؤشرا صحيحا لمعرفة تطور العلاقات الدولية وطبيعة الصراعات بين الدول ونوعية الحروب الباردة والساخنة بين الأمم وكذلك تطوير وتحديث أساليب وآليات التخابر والتصادم والتعاون بين أجهزة الاستعلامات المختلفة. عندما كنا في سن المراهقة كنا نرتاد قاعات السينما في العالم العربي في مطلع الستينيات واكتشفنا شريط (قبلات حارة من روسيا) الذي أخذنا مسحورين لعالم ملاحقة الجواسيس الذين يرسلهم المعسكر الشيوعي لخرق مقر وزارة الدفاع البريطانية أو لتصوير وثائق شديدة الحساسية والسرية من مقر (الأم آي 6) مركز المخابرات البريطانية ثم انطلاق العميل رقم 007 والمسمى بجيمس بوند على إثره يقتفي خطواته ويرصد تحركاته لاستعادة الوثائق المسروقة لأن في وقوعها في أيدي (الكي جي بي) نكبة حلف الناتو وهزيمة الحلفاء الغربيين أمام الدب الروسي المتحالف مع الدراغون (التنين) الصيني. إنها الحرب الباردة في أوجها والتي عشنا مخاطرها الساخنة من 14 إلى 24 أكتوبر عام 1962 حين انتصبت الصواريخ النووية السوفييتية ذات قدرة 1300 كلم في جزيرة كوبا وهددت ميامي في الولاياتالمتحدةالأمريكية وإذن الرئيس الأمريكي جون فيتزجيرالد كيندي بضرب الحصار على كوبا وتطويقها إلى حين نزع الصواريخ السوفييتية وبعد شد أعصابنا على مدى أطول من عشرة أيام في حياتنا تم تغليب العقل لدى قادة المعسكرين وأعلن الرئيس نيكيتا خروتشيف سحب صواريخه وبداية عهد جديد من التعاون بين العملاقين. كل هذه المغامرات نجدها مصوغة في مشاهد خيالية من إبداع الكاتب إيان فليمنغ عبر شريط جيمس بوند البطل الغربي الرأسمالي الليبرالي الذي لا يقهر. وحين وصلنا إلى سنة 1989 وأدركنا أن العملاق الشيوعي ما هو إلا صنم من ورق وانهار جدار برلين في لحظات غضب الشباب الألماني الذي أراد فاستجاب القدر لإرادته. أراد أن يوحد ألمانيا بجزأيها الغربي والشرقي وأراد فرض حرية المبادرة لدى الشعب الألماني وشعوب ما كان يعرف بأوروبا الشرقية أي الخاضعة للنفوذ السوفييتي ثم انهار الاتحاد السوفييتي بأسره تاركا مكانه اتحاد الجمهوريات الروسية بعد أن انفلق عقد الماركسية العنيفة وانتهت الحرب الباردة بما سماه الرئيس نيكسن (الانتصار بلا حرب). هكذا كان مناخ العلاقات بين الدول الكبرى منذ نصف قرن ثم وصلنا إلى (سكاي فول) حيث لم يعد أمام الغرب عدو شيوعي بل إن قصة (جيمس بوند الجديد) تدور حول صراع الغرب ضد ما يسمى الإرهاب فنرى بطل الشريط يلاحق أعوان منظمة هلامية شبحية ( ربما القاعدة.!) تمكنت من اختراق المنظومة الحاسوبية لحلف شمال الأطلسي واستولت على قائمة بأسماء وعناوين عملاء حلف الناتو في الشرق الأوسط وبالفعل بدأت المنظمة "الإرهابية" تغتال هؤلاء العملاء بنسق خمسة قتلى أسبوعيا إلى أن تدخل جيمس بوند وقتل ولاحق وعطل وقامر بحياته من أجل استرداد القائمة وكشف الجاسوس الذي سلم القائمة لأعداء الغرب. هنا تتغير المعادلة فلم يعد الغرب يواجه الاتحاد السوفييتي بل أصبح يواجه التطرف الإسلامي كما يتصوره كاتب السيناريو ويخرجه وينتجه (سام منديس) بعد خمسين عاما من ميلاد أسطورة جيمس بوند. والشريط كما نلاحظ هو تسجيل اللحظة التاريخية التي شهدت تحول لعبة الأمم وتغيير التوازنات القديمة بين غرب ليبرالي وشرق شيوعي إلى صراع طويل ومرير بين الحضارات كأن الشريط يريد أن يؤكد صدق ومنطقية نظرية صدام الحضارات التي طلع بها علينا المفكر الأمريكي اليهودي صامويل هنتنغتون ثم عززها المفكر الأمريكي الياباني الأصل فرنسيس فوكوياما في كتابه (نهاية التاريخ). هكذا اجتهدت أنا لأقرأ أحداث (سكاي فول) بعيون رجل عاش عهودا متلاحقة ومتناقضة من العلاقات الدولية في عصر واحد متقلب المعادلات ومتسارع التحولات. نقلا عن صحيفة الشرق القطرية