ما يحدث في أكثر من مكان حول العالم، وعلى وجه الخصوص في المنطقة العربية، من تصاعد أسهم الانغماس في الفتنة على حساب التعقل ودرء المخاطر، إلى جانب اشتعال شرارات الفتن المذهبية والطائفية والسياسية على أكثر من جبهة، وتحوّل الجو العام في عدد كبير من الدول العربية إلى سباق محموم بين قلة واعية تطالب بالتعقل وكبح جماح الفتنة، وأغلبية منقادة إلى مخططات أقلية تعمل في الظلام على نسج المكائد ونصب المصائد، تحمل على الاعتقاد بأن المنطقة دخلت عصر الفتنة من أوسع الأبواب . الفتن مشتعلة هنا وهناك، في ليبيا وتونس وسوريا ومصر والعراق وغيرها من الدول، والعناوين الرئيسة لها أوضح من أن تُغفل أو تضيع في زحمة الأولويات والأجندات، كثيرون أطلقوا السؤال عما إذا كان هذا عصر “الفوضى الخلاقة” الذي “بشّرت” به وزيرة خارجية الولاياتالمتحدة السابقة كوندوليزا رايس، وآخرون غيرها يضعون فرضيات ونظريات حول أسباب هذا التردي الهائل، وهذا الاختراق غير المسبوق لعناصر التفتيت والتشتيت والتأليب، وضرب الأخوة والأشقاء بعضهم بعضاً . المخططات المذكورة ونظريات المؤامرة الخارجية هي التفسير المرجّح والأكثر واقعية من غيره من التفسيرات القائمة على نظرية “إذا انعدم الاستقرار عمّت الفتن”، فالثابت في التاريخ أن الفتنة لا تمزق شعباً أو بلداً من دون وجود من يعدّ فتيل الإشعال، ومن يشعل الفتيل، ومن دون نار تأتي على الأخضر واليابس . الاتكاء على نموذج جلد الذات وتحميل الداخل وحده مسؤولية السماح للفتنة بالدخول من الباب، بعدما عزّ عليها التسلل من الشباك في الفترة السابقة، يحمل في طيّاته تجنياً واضحاً، وضرباً من إعفاء المجرمين الأساسيين من المسؤولية، ومساعدتهم في الإفلات بأفعالهم، ولذلك لا بد من توازن ما في الحديث عن أسباب ومسببات وسياقات الفتن المشتعلة هنا وهناك، بين التحليل على مستوى محلي مستويين آخرين إقليمي ودولي . الفتن تصطنع ولا تولد طبيعياً، ومغزى العبارة يتمثل في أن الوضع الطبيعي لأي شعب أو جماعة أو دولة أو أي تشكيل ذي عقد اجتماعي أو سياسي، التناغم والتواصل وجسر هوة الخلافات، وقد يكون في أقصى حالاته الحرب، لكن هذه الأخيرة تنبثق من قلب هذا الإطار، وضمن تقلبات منحنى العلاقات البينية، ولا تأتي تلبية لمخطط أو مطلب خارجي، ولا تحقيقاً لمصلحة دخيلة . هناك من يحترفون في العالم صناعة الفتن والقلاقل، وتجارة الحروب والموت، وضرب البنى الاجتماعية لشعوب طالما عاشت التناغم والتعايش رغم ديكتاتورية أنظمة معينة حكمتها أو تحكمها، وهؤلاء “المحترفون المنحرفون” ليسوا فقط دولاً أو منظمات دولية أو إقليمية أو غربية، هم أيضاً جماعات سياسية، وشركات عابرة للحدود والقارات، وتجّار سلاح، وغيرهم كثير، والهدف النهائي لكل من هؤلاء من مشروع الفتنة قد يتمايز مع الآخر، لكن في نهاية الأمر يجمعهم قاسم مشترك يتمثل في تحقيق مصلحة خارجية على حساب وضع داخلي . إدراك الحقيقة لا يحتاج إلى مجهر، إنها فتنة هدفها التفتيت والتشظي وتقسيم الأوطان، وعلى من يرى غير ذلك أن يعيد النظر بتمعّن أو يراجع طبيب العيون . نقلا عن صحيفة الخليج