كثيرة هي الأسباب التي أدت إلى اندلاع الثورات العربية أهمها تراكم الظلم والطغيان والفساد والاستبداد وإهدار حقوق الإنسان العربي وكرامته وحريته. هناك العديد من الجهات العسكرية والسياسية والاقتصادية والإعلامية والاجتماعية عملت معا بشكل مباشر أو غير مباشر لتوفير الشرارة اللازمة لاندلاع أول ثورة شعبية عارمة في التاريخ العربي، فهؤلاء جميعا شكلوا "التحالف الأسود" ضد المواطن العربي وإنسانيته، وهذا التحالف بدأ تكوينه منذ بدايات القرن الماضي واتخذ شكله العملي بعد الحرب العالمية الثانية حيث تم تقسيم الوطن العربي إلى وحدات وكتل صغيرة، وتجيير الحكم فيها إلى قوى مرتبطة بالاستعمار الغربي، البريطاني والفرنسي، على وجه الخصوص، وجرى إعداد النخب المحلية المتغربة التي "عبدت" النموذج الغربي وثقافته وحاولت تطبيق نموذج غربي اقتصادي وسياسي دون أخذ "الديمقراطية" وحق الشعب باختيار حكامه على الطريقة الغربية، الأمر الذي أدى إلى ولادة نماذج مشوهة انتقلت من فشل إلى فشل، وأغرقت البلاد في الهزائم العسكرية والسياسية والاقتصادية، والارتهان للأجنبي، وهو ما أدى إلى وقوع انقلابات عسكرية تحت شعارات "الإطاحة بالرجعية" وتخليص الوطن من "الخونة وعملاء الاستعمار"، مما أدى إلى تحكم العسكر في حياتنا. وباسم الثورات العسكرية المزيفة والحركات التصحيحية تم قتل المواطن العربي وسجنه وتعذيبه وسحله وإفقاره ومطاردته برزقه وقوته وقوت عياله، وتحويل حياته إلى جحيم لا يطاق، وبالطبع فإن كل هذا يتم عبر إجراء انتخابات صورية يفوز فيها بنسبة 99.9 في المائة، أما آخر انتخابات أجراها المهيب الركن صدام حسين مثلا فقد فاز فيها بنسبة 100 في المائة. "التحالف الأسود" ضم عسكريين انقلابيين وسياسيين انتهازيين ورجال أعمال فاسدين وقوى اجتماعية منافقة وإعلاما أسود يضم عصبة من أصحاب الأقلام الجاهزين لتبرير كل شيء يطلق عليهم في الأردن "كتاب المارينز" أو "كتاب التدخل السريع" أو "صحفيو الإيريال" في مصر، وهناك تسميات أخرى في العديد من البلدان لمثل هذا الصنف من الصحفيين، هؤلاء الحلفاء عملوا معا على وصول الأمور إلى درجة الانفجار، فالعسكريون والسياسيون أمسكوا بزمام الحكم وتركوا الحبل على الغارب لرجال الأعمال الفاسدين لنهب البلاد واحتكار الثورات مما خلق فوارق طبقية كبيرة في المجتمع لم يستفد منها إلا قلة من القوى الاجتماعية أو أصحاب النفوذ على حساب الكتلة الأكبر من الناس حتى وصل الأمر إلى احتكار 5 في المائة من السكان لأكثر من 80 في المائة من الثروة في بعض البلاد العربية، كما يشير تقرير التنمية في العالم العربي، مما أدى إلى انتشار الفقر والبطالة، في الوقت الذي لعب فيه الإعلام دورا تبريريا دفاعا عن أركان "الحلف الأسود"، فهذا الإعلام المحتكر من السلطة لا يتحدث إلا عن "الإنجازات" الوهمية وخطط التنمية الخمسية والعشرية، وعن الانتصارات المتخيلة وعن المسيرة الديمقراطية "المظفرة"، وبالطبع لا يتحدث هذا الإعلام عن الأخطاء والمشاكل والفقر والبطالة وتردي الوضع الاقتصادي ومعاناة الناس. في عام 1996 اندلعت انتفاضة شعبية في مدينة معان، جنوب الأردن، احتجاجا على رفع الأسعار وغلاء المعيشة في البلد، وكنت في ذلك الوقت أعمل في جريدة الرأي الأردنية، وفي الاجتماع التحريري، طالبت أن نقوم في الصحيفة بنقل الحقيقة كما هي، وأن نكتب عن الأسباب التي أدت إلى هذه الانتفاضة الشعبية، حتى يعلم صاحب القرار ما يجري في البلد، وقلت في الاجتماع:" أنا متأكد أن الأجهزة الرسمية تكذب وأنها تقدم تقارير غير صحيحة عما يجري للملك، وأنه يجب علينا أن نقدم نحن هذه التقارير الصحيحة لكي يتم تجاوز المشكلة ومعالجة أسباب الخلل واجتراح حلول ممكنة"، وتعرضت لموجة من الغضب وتم اللجوء إلى "الحل الأمني" لإسكات الناس بواسطة جنازير الدبابات. لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تثور فيها معان، بل سبق أن انتقضت عام 1989 لنفس السبب، وكأن 7 سنوات لم تكف لمعالجة أسباب المشكلة أو الوقوف على هموم الناس، والسبب الرئيسي في ذلك أن الدور الذي لعبه الإعلام كان سلبيا جدا، فلم يكن دوره المتحكم به بقوة يتعدى "التبرير والترويج" والتعامل مع الناس وكأنهم بلا عقول أو قليلو الإدراك، مما أدى إلى تفاقم المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وهو ما اعترف به صانع القرار الأردني بعد 17 عاما.. هل كان البلد، وصانع القرار، يحتاج إلى كل هذه السنوات لكي يعترف بالحقيقة. هذه التجربة الذاتية يمكن أن نتحدث فيها عن حالات مشابهة دول اندلعت فيها ثورات أطاحت بحكامها، إعلام مبارك وإعلام زين العابدين بن علي، وإعلام القذافي وإعلام علي صالح وإعلام بشار الأسد.. والسؤال هو: هل كان للثورات العربية أن تندلع لو كان الإعلام في هذه الدول شفافا وصادقا ينقل الحقيقة أو بعضا منها على الأقل؟ هل كان يمكن أن تنزلق الأمور إلى هذه الهوة السحيقة في العالم العربي لو كان لدينا صحافة حرة؟ مشكلة الإعلام الرسمي العربي، والصحافة المتحكم بها حكوميا، أنها تدفن رأسها في الرمال وتعتقد أنه يمكن أن تلعب الدور الذي كانت لعبته في القرن العشرين، عندما كانت تحتكر الساحة الإعلامية والصحفية! وهذا غير صحيح بالطبع، فكل مواطن أصبح صحفيا يمتلك صفحة على الفيسبوك وتويتر وهناك مواقع ومنتديات لا حصر لها على شبكة الإنترنت أصبحت تشكل إعلاما بديلا بكل ما في الكلمة من معنى، بل تشير بعض التقديرات إلى أن ثلاثة أرباع الناس في العالم العربي يستقون الأخبار والمعلومات عن طريق شبكة الإنترنت وإن وسائل الإعلام التقليدية من تلفزيون وصحافة وإذاعة في حالة تراجع أمام "المد الإنترنتي". نحتاج في العالم العربي إلى وضع "الإعلام والصحافة" على مشرحة البحث والدراسة، لنبحث في الدور السلبي الكبير الذي لعبته والذي أدى إلى مراكمة الغضب الشعبي الذي انفجر على شكل ثورات.. وهو بحث ضروري ولازم ولابد منه، فقد لعب هذا الإعلام دور الساحر ليسحر عيون الناس وعقولهم، لكن سحره ارتد عليه وعلى من يتحكم به فانتهى الأمر بالقذافي قتيلا وبمبارك سجينا وبزين العابدين لاجئا طريدا وبعلي صالح مخلوعا محروقا وببشار الأسد قاتلا مخربا إرهابيا يلقن السوريين دروسا في الطاعة بالبراميل المتفجرة.. وبعد كل هذا ألا يجب أن يعاد النظر بكل منظومة الإعلام في العالم العربي؟ ألا يجب أن يتغير دور الإعلام؟ ألا يجب أن ينفتح على الحقيقة؟ ألا يجب أن يتحول إلى إعلام الناس؟ هذه أمور لابد منها وإلا فإن المستقبل سيتشح بالمزيد من السواد بسبب هذا الإعلام العربي الأسود. نقلا عن صحيفة الشرق القطلرية