كان اسم «الأمين» يمثل التكافؤ الخُلقى فى شخصه صلوات الله وسلامه عليه أصدق تمثيل. فلم تكن صفة أرجح فى ميزان العدالة فيه على صفة، وهو الذى بلغ تمام الصفات الفُضلى جميعاً فأتمّها واستوفاها على الكمال الذى لا مزيد عليه؛ فشجاعته كحكمته، وحكمته كعدالته، وعدالته كرباطة جأشه، ورباطة جأشه كقوته فى الحق، وقوته فى الحق كعطفه، وعطفه كسماحته، وسماحته كصدقه، وهكذا لا تجد صفة فيه ناقصة عن أخرى، ولا صفة عالية عن الأخرى، ولا صفة فيه أقلّ من الأخرى، بل تتكافأ جميع الصفات فى شخصه الشريف تكافؤ العدالة لكأنما توزن بميزان مُحرّر دقيق بغير زيادة ولا نقصان. كانت أخلاقه تنبع كلها من فطرته بنسب متفقة متساوية؛ فصبره مثل شجاعته، وشجاعته مثل كرمه، وكرمه مثل حلمه، وحلمه مثل رحمته، ورحمته مثل مرؤته، وهكذا لا تجد له خُلقاً فى موضعه من الحياة يزيد أو ينقص على خُلق آخر فى موضعه منها، بل تساوت لديه حظوظ الملكات الباطنة وتوافقت جميعها بأنصبة عادلة على الفطرة النقية الصافية، لا يزيد فيها خُلق على خلق، ولا ينقص منها خُلق عن خلق. ومن هنا كان جماع أمره عند قومه «الأمين». وإذا كان اسم «الأمين» كما تقدّم يمثل التكافؤ الخلقى أصدق تمثيل؛ فهذا التكافؤ الخلقى أيضاً فى وجوده الواقعى فى شخصية محمد عليه السلام، إنما هو بالتحقيق معجزة الحياة فى الإنسان؛ لأن التاريخ لم يذكر من النماذج العليا للبشرية من كان هذا التكافؤ الخُلقى خليقته العامة سوى محمد. وإذا ذكر التاريخ غيره من النماذج العليا ذكره عنواناً لتبريز جزئى فى بعض الأخلاق والفضائل، فهذا مثلٌ مضروب فى الصبر، وذاك مثلٌ فى الحلم، وثالث فى الكرم، ورابع فى الشجاعة. وهكذا تتفرّق النهايات فى الأخلاق والفضائل فى نماذج متعددة، ولكنها تجتمع متكافئة فى شخصه الشريف صلوات الله عليه فيما أشار إلى ذلك الفاضل الأستاذ الدكتور محمد الصادق عرجون، عليه رحمة الله، فى كتابه «محمد من نبعته إلى بعثته». وباجتماع الفضائل والأخلاق متساوية متكافئة فى شخصه عليه السلام يظهر الإعجاز الإنسانى فى حياته، وهو القائل صلوات الله وسلامه عليه : «أدّبنى ربى فأحسن تأديبي». ولعَلّ هذا الأدب الرّبانى هو مصدر الإعجاز فى حياته عليه السلام، من حيث كان ضابطاً نفسياً يفوق صنع الإنسان بمقدار ما يفوق طاقته على الحسم والعزم، فمثل هذا التكافؤ الخلقى فى وجوده الواقعى فى شرخ شبابه مع ملازمة الظاهرة الاجتماعية الأولى لحياته، إنما هو ضربٌ آخر من الإعجاز الإنسانى فى الحياة؛ لأن تلك الظاهرة الاجتماعية كانت قمينة أن تدفع الشباب إلى طيش الغرائز، فتنقلب به الفضائل إلى رذائل جامحة، فوجود ضابط نفسى يعصم الإنسان من الانزلاق وراء تيارات الغرائز فى إبّان قوتها العارمة هو الآية الكبرى على أن التكافؤ الخلقى الذى ينبع منه ذلك الضابط النفسي، ليس من صنع الإنسان، ولا فى طاقته، وإنما هو من صنع التأديب الرّبانى والعناية الإلهيّة كما قال عليه السلام. ومن المؤكد أن صفة الأمين دالةٌ من قريب على عين ذاته، وعلى الأمانة التى تَشْرُف به، ولا بقاء لها من صفة بغير النظر بأصالتها فى شخص محمد عليه السلام قدوة الأمناء ومعدن الأتقياء وأصل الطهر وتحمّل التبعات والصبر عليها.