نشرت مجلة الشئون الخارجية الأمريكية الشهيرة في عدد مايو - يونيو 2011 تحليلاً مطولاً عن ثورات 2011 العربية تحت عنوان »محاولة فهم ثورات 2011.. مواطن القوة والضعف في الديكتاتوريات الشرق أوسطية« بقلم جاك جولدستون الأستاذ بجامعة جورج ماسون يعبر، أصدق تعبير عن مفهوم الغرب للثورات العربية. يقول جولدستون إن موجة الثورات التي تجتاح الشرق الأوسط تشبه بقوة الزلازل السياسية السابقة، فكما حدث في أوروبا 1848 تسبب ارتفاع أسعار المواد الغذائية وزيادة البطالة في انفجار احتجاجات شعبية من المغرب إلي مسقط. وكما حدث في شرق أوروبا والاتحاد السوفيتي 1989 فإن الغضب من الأنظمة المغلقة الفاسدة أدي إلي تخلي النخبة عن الحكام وسقوط أنظمة حكم كانت قوية في تونس ومصر وربما ليبيا أيضاً. وتتميز ثورات 2011 عما سبقها بأنها تهدف إلي إسقاط »سلاطين« طغاة، ورغم أن حكم هؤلاء الطغاة يبدو راسخاً فهو في الواقع في غاية الهشاشة، لأن استراتيجية الطغاة للتمسك بالسلطة غاية في الضعف، وليس مصادفة أنه رغم أن الاحتجاجات الشعبية هزت معظم بلاد الشرق الأوسط فإن الثورات الوحيدة التي نجحت للآن كانت في تونس ومصر، فهناك عدة عوامل ضرورية لنجاح الثورة، وهي أن الديكتاتورية الحاكمة يجب أن تكون غاية في الظلم والعجز بحيث تبدو خطراً علي مستقبل الوطن، فتنفر منها النخبة، خصوصاً النخبة العسكرية التي تفقد الرغبة في الدفاع عنها، كما تتسع دائرة الغضب الشعبي فتضم قطاعات كبيرة من الشعب من مجموعات عرقية ودينية وطبقات اجتماعية، وتتحرك هذه المجموعات ضد الحكم الديكتاتوري، بينما ترفض القوي الدولية التدخل لحماية النظام الديكتاتوري أو تحجم قدرته علي استعمال أقصي قوة للبقاء في الحكم. ونادراً ما تنجح الثورات لأن هذه العناصر المذكورة نادراً ما تجتمع في الوقت نفسه، وينطبق ذلك خصوصاً علي نظم الملكية المطلقة ودول الحزب الواحد، إذ يلجأ القادة لمناشدة الجماهير باسم التقاليد الملكية أو باسم الوطنية، وتكون النخب في هذه الدول مستفيدة عادة من النظام، فلا تنقلب ضده إلا إذا تغيرت الظروف أو تصرفات الطغاة تغيراً جذرياً، وفي كل الحالات تقريباً يصعب جداً حشد تأييد قاعدة جماهيرية عريضة لاختلاف مصالح واتجاهات المجموعات المختلفة من الطبقات والولاءات العرقية والدينية، والتاريخ مليء بالأمثلة علي ثورات عمال أو فلاحين أو طلبة تم سحقها لأنها كانت من صنع مجموعة واحدة، وأخيراً فإنه في حالات كثيرة يحدث تدخل أجنبي لحماية طغاة حاكمين من أجل الحفاظ علي النظام العالمي السائد. ولكن هناك ديكتاتوريات معرضة لانهيار سريع لا تستطيع الحفاظ علي السلطة لأكثر من جيل واحد وهي الأنظمة السلطانية، فهذه الأنظمة تقوم عندما يمد زعيم قومي سلطته علي حساب المؤسسات الرسمية، هؤلاء السلاطين الطغاة ليست لديهم أية أيديولوجية سوي الاحتفاظ بالسلطة، قد يحتفظون ببعض أشكال الديمقراطية مثل الانتخابات والأحزاب والدساتير الورقية، ولكنهم يسيطرون علي السلطة بزرع أعوان مطيعين في المناصب الحساسة أو إعلان قوانين الطوارئ بحجة مواجهة عدو خارجي أو داخلي، ويستحوذ مثل هؤلاء الطغاة علي ثروات هائلة يستخدمونها في شراء الأعوان ومعاقبة الخصوم، ولحاجتهم للمال فإنهم يشجعون النمو الاقتصادي من خلال التصنيع وتشجيع التجارة، ويعملون علي تدعيم علاقاتهم بالدول الأجنبية تحت راية الاستقرار مقابل حصولهم علي المعونات والاستثمار الأجنبي، ولكن أي ثروة تدخل بلادهم يستحوذ السلطان وأعوانه علي معظمها. ويسيطر هؤلاء السلاطين علي السلطة بإبقاء النخب العسكرية منقسمة، فتوزع أجهزة الأمن علي قيادات مستقلة تتلقي أوامرها من السلطان الذي ينفرد بالقيادة ويجعل من نفسه ضرورة ويغذي الشعور بالخوف من غيبة المعونات الأجنبية والتنسيق السياسي لو اهتزت سلطاته، ويتجنب هؤلاء السلاطين عادة تعيين خلفاء لهم، ويسيطرون علي الانتخابات والحياة السياسية، ويشترون رضاء العامة بتدعيم السلع الغذائية الأساسية بينما يسيطرون علي الإعلام لإبقاء شعوبهم سلبية وخانعة، ومن أشهر أمثلة هؤلاء السلاطين في التاريخ الحديث شاه إيران السابق وسوموزا في نيكاراجوا وماركوس في الفلبين وسوهارتو في أندونيسيا، ولكن كل هؤلاء السلاطين تعلموا أن السلطة المطلقة يصعب الاحتفاظ بها للأبد. وقد تعلم السلاطين الجدد نفس الدرس في الشرق الأوسط مثل الأسد في سوريا وبن علي في تونس ومبارك في مصر. فرغم كل محاولات الإمساك بالسلطة المطلقة تزداد هشاشة سيطرتهم بمرور الوقت، وعندما يزداد جشعهم تضعف قدرتهم علي شراء ولاء النخب مما يفقدهم تأييد تلك النخب في النهاية. وبينما ينمو الاقتصاد في ظل هؤلاء الطغاة وتتسع دائرة التعليم يزداد طموح النخب ونفورهم من طغيان السلاطين واستئثاره بنصيب الأسد من النمو الاقتصادي ويزداد الشعور بالفجوة بين الطبقات وتزداد البطالة، وعندما تبدأ الاضطرابات السياسية يحاول السلاطين تقديم تنازلات كما فعل ماركوس في الفلبين 1984، ولكنها لم تنقذه من السقوط 1986 بعد أن تحرك الغضب الجماهيري الشامل. ويزداد وضوح ضعف الأنظمة السلطانية كلما تقدم السلطان في السن وبدأ الحديث عن خلافته. استطاع بعض السلاطين أحياناً نقل الخلافة لأحد أفراد أسرتهم كما فعل حافظ الأسد في سوريا، ولكن عندما يؤدي فساد النظام إلي نفور النخب منه تقف تلك النخب في وجه الخلافة العائلية، كما حدث في أندونيسيا أواخر تسعينيات القرن الماضي، وعندما يجعل السلطان من شخص ضرورة لا غني عنها يصبح كل كبار المسئولين مرتبطين بشخص يرعبهم سقوطه من السلطة فتتجمد الحياة السياسية ويسهل علي النخب المعادية حشد التأييد الجماهيري لتغيير النظام، ويتسبب تفتيت قيادة أجهزة الأمن في إنشقاق بعضها عن طاعة السلطان عندما ينفجر الغضب الجماهيري، وعندما ينشق جزء من الجيش - كما حدث لشاه إيران وسوهارتو - ينهار النظام بسرعة مدهشة، ويجد السلطان نفسه فجأة وحيداً بلا حول ولا قوة. ولا تظهر درجة هشاشة الحكم السلطاني إلا بأثر رجعي عندما يسقط السلاطين نتيجة تمرد شعبي واسع النطاق، وأحياناً يتسبب الضغط الخارجي في سقوط السلطان مثلما حدث لماركوس 1986 عندما أعطته أمريكا ظهرها وتخلت عنه فانفض من حوله باقي ما كان معه من حلفاء. وتمثل الثورات التي انفجرت في الشرق الأوسط مؤخراً انهيار أنظمة حكم سلطاني فاسدة جداً، فرغم أن اقتصاديات هذه الدول قد نمت في السنين الأخيرة فقد استفادت من هذا النمو فئة قليلة حول السلطان وحرمت الأغلبية الساحقة من ثماره فمثلاً جمع مبارك وأسرته ثروة تقدر بأربعين إلي سبعين مليار دولار، وجمعت شلة رجال أعمال محيطة بجمال مبارك عددها 39 شخصاً ثروات تقدر بمليار دولار في المتوسط لكل منهم، وفي تونس قدرت البرقيات الأمريكية الدبلوماسية التي سربتها ويكيليكس 2008 وقوع زيادة ضخمة في حجم الفساد وحذرت من أن أسرة بن علي أصبحت عقبة في وجه الاستثمار وخلق فرص عمل جديدة، وسببت سخطاً شعبياً هائلاً. وقد تضرر سكان المدن الذين يتزايد عددهم بسرعة في الشرق الأوسط من ارتفاع أسعار المعيشة وضعف الرواتب، ولكن ذلك لم يكن وحده سبب الثورات، كان السبب هو انتشار الفقر وازدياده وسط جو تزداد فيه ثروة قلة ضئيلة زيادة فاحشة، وساعد انتشار البطالة علي زيادة السخط خاصة وسط الشباب الذين يكونون نسبة ضخمة من تعداد هذه الشعوب. ونتيجة انتشار التعليم الجامعي زدات نسبة البطالة بين خريجي الجامعات زيادة هائلة نتيجة تضاعف عدد الخريجين الذي وصل في السنوات الأخيرة إلي ثلاثة أمثاله في تونس وأربعة أمثاله في مصر وعشرة أمثاله في ليبيا. ونقف عند هذه الفقرة لنعرض في المقال التالي والأخير في هذه السلسلة باقي تحليل جولدستون لمفهوم الغرب عن الثورات العربية 2011. عضو الهيئة العليا للوفد رئيس لجنة العلاقات الخارجية