لم يكن للدكتور جابر البلتاجى أستاذ الغناء الأوبرالى بأكاديمية الفنون خصومة مع أحد، فهو فنان لا يعرف سوي الحب للجميع وأعماله ترصد سيلاً من الإنجازات تنحاز جميعها لدعم الفن الحقيقي في مواجهة الاتجار بالفن وبرغم ذلك فقد كان البلتاجى صيداً ثميناً للمؤامرات، وكلما سعي إلي مشروع فني للتطوير فوجئ بمن يرميه بالأكاذيب والسخف.. أنا أؤكد أن جابر البلتاجى أحد ضحايا فترة حكم مبارك.. ففي غياب التعيين ومع انتشار الوساطة والرشوة والوراثة والهوى في هذا الزمن، لم يكن من السهل زيوع الأصلاء.. وربما كان هو السبب الأول لغياب أكثر من حقبة فنية وأدبية وعلمية ويغيب معها الصف الثانى للكبار.. حتى إن هذه الأزمة وقفت في أعين الحاكم ذاته يوم أراد توريث نجله.. وتسيير الشباب في الصف الأول، لم يجد أكفاء.. غير من هم علي شاكلة عز ورفاقه من المغامرين بغير جذور. جابر البلتاجى أحد أبرز الأوبراليين العالميين، شارك في أشهر الأوبريتات العالمية في مصر وفي دول العالم. ويكفي شهادة أحد كبار مثقفي مصر والعالم العربي الدكتور ثروت عكاشة «وزير» بخط يده، حين قال عنه: عندما استمعت إلي صوتك المجلجل يا جابر.. في حفل الأوبرا القديمة المأسوف عليها، توقعت لك مستقبلاً باهراً في الغناء الأوبرالى.. أهداه الله سبحانه وتعالى إياك لمصر وسمعتها الفنية، وأعتبر أن استبعادك عن الغناء، في دار الأوبرا، كارثة فنية لا سيما بعد أن أطلت قامة مصر الفنية بالغناء في مسرح البولشوى وفوزك بميدالية هذا المسرح التليد، وحسبك ما وهبك الله من صوت ذهبي ملائكى وستظل باريتونا مصرياً قحاً خالداً في تاريخ الفن الأوبرالى.. وفقك الله سبحانه وتعالى ووقع ثروت عكاشة هذه الكلمات في 18 فبراير 2008، أما 8 فبراير فهو ذكرى عيد ميلاده. لكن السنة 2008 هي قمة وعمق سنوات الاضطهاد التي عاشها جابر البلتاجى وحينما كنا نسأله عن سبب اضطهاده يجيب بالنفي أنه لا يعرف السبب وربما لأنه ناجح.. ولكن في النهاية لا لم نكن نعرف من وراء هذا النفي.. وعزله عن أهم الحفلات حتي بعد الاتفاق علي الحفل وكتابة العقود، فكثيراً ما كان يفاجأ بمنعه سواء لأسباب واهية أو بدون إبداء سبب. والشهود علي ذلك كله كثير لا يحتاج إلى جهد، ولولا صلابة إيمانه وقدرته علي تخطى الأزمات، لإنهاء البلتاجى، إلا أنه لا يري أن أزمته خاصة به أو هى أزمة شخصية، بل يري إنها أزمة عصر الانحطاط، انحطاط جعل من وزارة الثقافة في ذلك الوقت وزارة فساد، كما كان يحلو للفنان السياسي حمدي أحمد أن يطلق عليها.. يرى البلتاجى أننا في أحوج ما يكون لفضح سنوات الانتكاس والتراجع، لكي نعرف كيف نتخطى هذه السلبيات، فهو يسأل دائماً هل ستعود الثقافة وارتقاء الذوق في الشارع المصرى كما كان في عهد د. ثروت عكاشة رائد الفن المصرى والعربى..؟! بعد أن هبطت واستبد مكانها هبوط الوعي الثقافى وربما هبطنا عنه أيضاً. ولا أعرف هل لو كان الناس اكتسبوا الذوق والرفعة في الثقافة والآداب والفنون، هل كنا نصل إلي ما نحن عليه اليوم في مصر من حكم إخوانى مستبد يتلقى تعليمات من أمريكا ويتحدث بغير ما يبطن؟! وهكذا وصل الحال أن أصبح الشارع المصرى فوضى وبلطجة وغياباً كاملاً للدولة التي انشغلت عن الشعب.. وما كان هكذا المصريون في الخمسينيات والستينيات، كانوا يحتفظون بتراثنا الفني والأدبى منذ سيد درويش، حتى إذا فوجئوا بفيردى الإيطالى المعروف، لم تكن آذانهم تهرب.. وهو الذي كلفه الخديو إسماعيل بعمل أوبرا عايدة ليكون حفلاً بدار الأوبرا الملكية بمناسبة افتتاح قناة السويس، ولعلنا نجدها فرصة لنلقى الضوء علي عائلة محمد على التي امتدت إلي الخديو إسماعيل وكيف أن محمد على باشا أقام خمس مدارس للموسيقى والغناء في عشر سنوات من 1824 حتي 1834، فهل استمر هذا النشاط؟ إسماعيل باشا اهتم بالألحان التي يعبر عنها الشعب المصرى حيث زرع في داخلهم السعادة والذائقة السليمة والارتقاء الفنى وصولاً إلي ما بعد ثورة 52 والمؤسسات الثقافية التي أنشأها ثروت عكاشة بدءاً بأكاديمية الفنون، وصولاً إلي صروح الثقافة والفن العريقة التي لانزال نحيا بها ونتعلم منها.. الدكتور جابر البلتاجى بالمناسبة هو صاحب الاقتراح المهم الذي نشره في مقال بجريدة «العربى» الناصرى وطالب فيه بأن تكون أكاديمية الفنون تابعة لوزارة التعليم العالى لكي تأخذ حقها من العلم والحضارة.