ظلَّ يبحث عن الجديد فى أعمال الروائيين والشعراء الجدد لا أصدق أنك رحلت أيها الحكيم المتواضع والمثقف المعلم بلا غرور وتعالٍ، ليس عمرك هو المدون فى بطاقتك الشخصية ويشى أنك جئت الدنيا فى مدينة المحلة الكبرى عام 1944م، ورحلت عنها فى مدينة القاهرة عام 2021، بل عشت يا معلمى آلاف السنين وتنقلت بين العصور والأزمنة، ورافقت الفلاسفة والمتصوفين، وعشقت رومانسية الشعراء وآمنت بأحلام الروائيين، أيها الجابر للعقول والعصفور المغرد خارج السرب دوماً.. فلتهدأ روحك المحاربة اليوم، فهناك الكثير من مريديك من يحلم كما كنت تردد دائماً بالخروج من مستوى الضرورة إلى مستوى الحرية الإنسانية. هذه ليست مقدمة رثاء عن رحيل مثقف كبير وناقد هو التلميذ النجيب للدكتورة سهير القلماوى الابنة البارة للدكتور طه حسين، وبالتالى فهو الحفيد الشرعى للعميد، بل هذه رسالة وداع من تلميذة صغيرة من مئات التلاميذ الصحفيين الذين تعاملوا مع الدكتور جابر عصفور، فجعل رصدهم للمشهد الثقافى أقرب إلى مدرسة كبيرة لفهم الحياة والبشر. حياة صاخبة عاشها الدكتور جابر عصفور مشتبكاً مع الحياة الثقافية منذ حصوله على درجة الليسانس من قسم اللغة العربية بكلية آداب جامعة القاهرة بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف عام 1965، حيث آمن الدكتور جابر عصفور بالحرية فى اعلى مستوياتها، لذلك اعتراض على المادة 2 فى الدستور، والتى تنص على «الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع»، قائلا: ان مادة الشريعة الإسلامية تم وضعها عام 1923 عندما صنعوا الدستور وهذه المادة لم تكن من قبل». وأضاف أن لجنة صناعة الدستور وقتذاك، كان بها 3 أشخاص يهود، وقال شيخ الأزهر فى هذا الوقت، لماذا لا ننص على الإسلام دين الدولة، وعندما حصل على الأغلبية تم وضع مادة الشريعة الإسلامية بالدستور المصرى، ولكن المتطرفين يريدون مصر دولة إسلامية.. وأن الأولوية فيها للمسلمين.. رغم أنه يجب ألا يكون هناك مواطن أفضل من الآخر.. المواطنة لا تمييز فيها على الإطلاق. وآمن الدكتور جابر عصفور بأنه لا يجب وضع خانة الديانة فى البطاقة الشخصية مطلقا، حتى فى الزواج ليس مطالبا أن يتم التعرف على ديانة الزوج، قائلا: «فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.. ولا يجب أن يتدخل أحد من رجال الدين فى حياته المدنية». كما توقع أن هذا التفكير الدينى المتطرف لا مستقبل له، من الممكن أن يعيش سنوات ولكن مصيره إلى نهاية، فهو ضد الحتمية التاريخية وطالما تقاومينه بكثرة المدارس والتعليم ومحاربة الجهل بكل الوسائل سوف ينحسر هذا التفكير. ولم يفقد الدكتور جابر عصفور الأمل فى غد أكثر حرية وبهاء ففى آخر لقاء أجريته معه عام 2018 أشار إلى أنه يبحث عن جديد فى أعمال هؤلاء الروائيين والشعراء الجدد، فالناقد حينما يفقد الأمل، يفقد معه قدرته على النقد. ويرى «عصفور» دور النقاد أشبه بالمنتظرين لحظات مخاض جديدة، ولكن هذه اللحظات تأخرت، وكان يتوقع أن تكون قبل ذلك بسنوات حتى يكون لدينا تعويض للأجيال الروائية والشعرية التى فقدناها، فكان هناك جيل روائى وشعرى مبدع يرحل فيحل محله جيل آخر بنفس الزخم والعطاء الفكرى والثقافى. ومن أشهر المعارك التى خاضها الدكتور جابر عصفور وأثارت فى وقتها سجالاً عنيفاً بين مؤيد ومعارض معركته مع الناقد الراحل الدكتور عبد العزيز حمودة حول الحداثة والبنيوية والتفكيك، وقد دارت رحى هذه المعركة عام 1998 على صفحات جريدة أخبار الأدب، ثم ارتأى جابر عصفور إصدارها فى كتاب تحت عنوان معركة الحداثة عقب صدور كتاب «المرايا المحدبة» للدكتور حمودة فى سلسلة عالم المعرفة بالكويت. وأخذ «عصفور» كما جاء فى دراسة نقدية نشرها الكاتب خالد بيومى فى صفحات مجلة روزاليوسف على حمودة اتهام الحداثيين العرب بالباطل بهدف السخرية ممن يسميهم حمودة «نخبة النخبة من الحداثيين العرب» حيث وصفهم بالنرجسية إلى حد بعيد كما لو كانوا يقفون أمام مرايا محدبة وقد وقف أمامها الحداثيون جميعا ودون استثناء، الأصليون منهم والناقلون، حتى كانت كافية لإقناعهم بأن صورهم فى المرايا المحدبة هى حقائقهم بهدف إهالة التراب على جهود العشرات من النقاد والدارسين العرب على امتداد الوطن العربى، وضع من اختارهم لهوى فى نفسه،أمام مراياهم التى وجدها محدبة تكبر من صورهم أو تشوهها، فلا تخرج لهم ولا للقراء سوى صور زائفة يكون أسرى نادى نخبة النخبة الثقافى. ويرى «عصفور» أن «حمودة» ارتكب معصيتين أساسيتين من وجهة نظر الحداثيين، المعصية الأولى: هى تبسيط المعلومات بقدر الاستطاعة، فى محاولة لفك طلاسم المصطلح النقدى، والشفرة الفكرية والنقدية للمشروع البنيوى واستراتيجية التفكيك. والمعصية الثانية تتعلق بموضوع الدراسة ذاته، وهو الصورة داخل المرآة المحدبة، وضخمت حقيقة الواقف أمامها، وبالغت فى حجمه، ثم -وهو الأدهى- أنه صدق صورته فى المرآة بمرور الوقت، فالكتاب يهاجم الكتابات العربية التى تأثرت بالبنيوية، كما أن المعالجة العجلى فى الكتاب للحداثة وما بعد الحداثة، أفضت فى غير موضع إلى الإيهام بالتطابق بينهما، وبين البنيوية والتفكيكية كما لو كان الطرف الأول للحداثة وما بعد الحداثة هو الطرف الثانى للبنيوية والتفكيكية، ولا ينبه القارئ إلى أن الحداثة أوسع بكثير جدا من البنيوية شأنها فى ذلك شأن ما بعد الحداثة. وللدكتور جابر عصفور العديد من المؤلفات والكتب فى مسيرته العلمية، منها التراث النقدى والبلاغى، وكتاب دراسة فى نقد طه حسين، وكتب: التنوير فى مواجهة الظلام، ومحنة التنوير، والدفاع عن التنوير. وعبر رحلته الطويلة حصد الدكتور جابر عصفور العديد من الجوائز والتكريمات من بينها جائزة أفضل كتاب للدراسة النقدية، القاهرة 1984. وجائزة أفضل كتاب فى الدراسات الأدبية، مؤسسة الكويت للتقدم العلمى، الكويت 1985. وجائزة أفضل كتاب فى الدراسات الإنسانية، معرض الكتاب الدولى - القاهرة 1995 والوسام الثقافى التونسى من رئيس جمهورية تونس (أكتوبر 1995). وجائزة سلطان بن على العويس فى حقل الدراسات الأدبية والنقد الدورة الخامسة (1996-1997)، ودرع رابطة المرأة العربية (8 مارس 2003 وأخيراً جائزة النيل 2019.