لا أحد يستطيع أن ينكر دور المعارك الفكرية والأدبية التي شهدتها ساحاتنا الثقافية دوماً، والتى أثرت ثقافتنا بالعديد من الرؤى والتصورات التي ما كان لها أن تظهر أو تطرح على ساحة الفكر والأدب لو لم تنشب تلك المعارك الأدبية والسجالات الفكرية، ولا جدال أن أغلب هذه المعارك نشأ في مناخات من الحرية والحيادية، بهدف إثراء المشهد الأدبى والفكرى أيضاً. لقد استطاعت هذه الأجواء أن تجذب أنظار المهتمين بالفكر والثقافة إليها،بهدف متابعة تطوراتها والوقوف على نتائجها، الأمر الذي كان يربط القراء بالكتاب والمبدعين، وعلى هذا شارك المجتمع كله المفكرين قضاياهم وأفكارهم، فنشأ «العقاديون» و«الطحسنيون» نسبة إلى العقاد وطه حسين، ومن هنا تأتى أهمية المعارك الأدبية والفكرية، فهي تحرك العقول والبشر، فكل يجود بما عنده، ولا شك أن لهذه المعارك وجهاً آخر يحمل حنقاً وضغينة فى النفوس، كما كان لها كثير من الفضل في إثراء ثقافتنا والارتفاع بمستوى القارئ. فليس فى الإمكان تناسي المعارك الأدبية والمحاورات الفكرية التى دارت بين العقاد وطه حسين والرافعي والمنفلوطي وأحمد أمين وزكي مبارك ومحمد حسين فى بدايات القرن، وكانت كل الإصدارات الثقافية فى ذلك الوقت شاهداً عليها، بل وموثقة لها. يذكرنا بالمعارك الأدبية والفكرية اليوم ذكرى أحد أهم من خاضوا معركة فكرية فى نهايات القرن العشرين، بل وبدايات القرن الواحد والعشرين، وهو الدكتور عبد العزيز حمودة الناقد الكبير والذى أحدث زلزالا ثقافيا مدويا بتدشينه ثلاثيته المرايا المقعرة، المرايا المحدبة والخروج من التيه،والتي نشرت في سلسلة عالم المعرفة عن المجلس الأعلى للثقافة والفنون والآداب عام 1998. وهو عبدالعزيز عبد السلام أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة القاهرة، له قيمة نقدية كبيرة في الوطن العربي. ولد عام 1937 بقرية دلبشان مركز كفر الزيات بمحافظة الغربية وتلقى تعليمه الأولي بمدينة طنطا، ثم التحق بكلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية جامعة القاهرة حتى تخرج عام 1962 ليبتعث إلى جامعة كورنيل الأمريكية للحصول على درجة الماجستير في الأدب المسرحي عام 1965 ثم حصل على الدكتوراه من نفس الجامعة عام 1968، وعاد إلى جامعة القاهرة ليعمل بتدريس النقد والدراما والأدب المسرحي. تدرج في عمله الأكاديمي حتى تم اختياره عميدا لكلية الآداب عام 1985 وحتى يوليو 1989 ثم عمل مستشارا ثقافيا لمصر بالولايات المتحدةالأمريكية وبعد العودة عمل بكلية الآداب رئيسا لقسم اللغة الإنجليزية جامعة القاهرة، ثم عميدا للدراسات العليا جامعة الإمارات، ونائبا لجامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا، ثم تولى رئاسة جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا حتى توفي سنة 2006م عن عمر يناهز الثامنة والستين. من أهم مؤلفاته: علم الجمال والنقد الحديث، المسرح السياسي، مسرح رشاد رشدي، البناء الدرامي، المسرح الأمريكي،الحلم الأمريكي، المرايا المحدبة، المرايا المقعرة، الخروج من التيه، وهى ثلاثيته الشهيرة التى دخل بها معركته الأدبية ضد الحداثة والمحدثين. من أهم الجوائز التى حصل عليها عبد العزيز حمودة كانت جائزة الدولة التقديرية للآداب عام 2002 علاوة على حصوله على لقب شاعر مكة في النقد عام 2000 من مؤسسة يماني الثقافية عن كتابه «المرايا المحدبة» وفوزه بجائزة محمد حسن الفقي السعودية مناصفة مع الدكتور حسن بن فهد 2006. صدر في سنة 1998 كتاب «المرايا المحدبة» لعبد العزيز حمودة، وأشعل هذا الكتاب، بعد صدوره بأشهر، أوار معركة نقدية بين الحداثة والتقليد، جرت وقائعها في ساحات الجرائد والمجلات الأدبية والفكرية،كان حمودة طرفها الأول وعلى الناصية الأخرى يقف كثيرون من المحدثين ومنهم على سبيل المثال الدكتور جابر عصفور. يقول الدكتور عبد العزيز حمودة فى كتابه « أن النقد الحداثي ليس حقائق علمية إنسانية عالمية يجب التسليم بها وعدم مناقشتها، بل هي طروحات وفرضيات ومبادئ ومفاهيم قابلة للنقاش والحوار والجدل. فالحداثيون العرب يدعون أنهم يجمعون بين الأصالة والمعاصرة, وهو شعار لهم, وهو الذي يعد خروجاً على مبادئ وأسس الحداثة الغربية التي تدعي القطيعة المعرفية مع الماضي، وهو في حقيقته لا يجمع بينهما، وإنما هو يقرأ التراث من منظور حداثي غربي منحاز. و فى تفنيد مهم لما ورد فى ثلاثية حمودة، يقول الكاتب سفيان عبد الستار: إن النقد الأدبي تطور بالنظريات العديدة والاقترابات الجديدة في العصر الحديث، وساعدت العولمة والتبادل الثقافي على تقدّمه، وتداخلت النظريات الغربية مع العربية والعكس، ولم يمكث, ولد التصارع العقلي بين العرب والغرب، وأدّى إلى نشوء الأقطاب في الأحوال الاجتماعية عامة وفي الأدب خاصة، تطوّر النقد الأدبي العربي أثناء هذا الصراع، لأن لغة النقد هي لغة العقل. وفتحت حملة نابليون والبعثات العلمية وإصلاحات محمد علي وعوامل النهضة الحديثة أبواب المحادثة مع الغرب, ومفكرو العربية يطوفون حول أسباب الضعف والقوّة, خاصة عن عدم الاستقرار للحكم في البلاد العربية وتسبّبت هذه المؤثرات إلى التفكر عن الصراع بين الحداثة والتقليد. ووقف النقد الأدبي بين الحداثة والتقليد، ورحّب بعض الأدباء بالنظريات الغربية وابتدعوا قطعاتهم الأدبية على تأثيرها. وشدّت الصراعات بين الدعوة إلى المحافظة على التراث القديم وإلى الحركة التجديدية وبين الدفاع عن الأدب الإسلامي والأخلاق والسنن الاجتماعية ومنجزات الحضارات الإسلامية ودراسة رجالها وأعلامها دراسة حديثة في نزعة عقلانية؛ وبين مقاومة التيار الغربي أو إخضاع الأدب للتجديد والتعريب ومهاجمة الأدب الشرقي والدعوة إلي الآداب الغربية وترويج مذاهبها، فمن ثم دخل معارك أدبية أدت إلي ظهور مدرستين رئيستين في النقد الحديث كما كان في الأدب:. المدرسة النقدية التقليدية. المدرسة النقدية التجديدية. فقد تمثلت المدرسة الأخيرة في المثقفين المتعلمين من الجيل الجديد، المتأثرين بالثقافات الأجنبية والعلوم الجديدة الذين يطمحون العيش بين أبناء جيل النهضة. وفي هذا الصدد, حاول الدكتور عبد العزيز حمودة ان يؤسس النظرية النقدية للأدب العربي معتمدا على التراث. أحيط النقد الأدبي بنظريات عديدة وتقاس الإنتاجات الأدبية عليها بنطاق واسع ولكن أكثرها منشئة على الحضون الغربية ومتأثرة بأحوال الاجتماعية والسياسية بالغرب. يدعو حمودة إلى بناء النظريات النقدية العربية بدلا من آراء النقدية الغربية كما توجد النظريات الأدبية العربية. نجده متحاملا على أفكار عصر النهضة العربية ويتسم عليهم موقف معاداة التراث والانفصال عنه بغية تأسيس وعي نقدي جديد, كما يرى بأن الحداثيين العرب قاموا باستعادة الفكر الغربي من منطلق الانبهار أو الإحساس بالنقص تجاه مورثهم. و من هنا كانت نقطة انطلاق المعركة، حيث كتب الدكتور جابر عصفور بعد صدور الكتاب» عقلية عبد العزيز حمودة عقلية تقليدية تشبعت بنقد قديم فلم تستطع فهم الحداثة، وفي كتابه خلط بين الحداثة كاتجاه والنظريات النقدية، فوضع كل الأشياء في سلة واحدة، لأن عقليته غير قادرة على فهم المدارس الجديدة، ولأنّه لم يحدث لديه تراكم معرفي، ولم يقرأ ما يكفي من البنيوية والتفكيك، ومن هنا ظل كلامه على السّطح». و هنا يقول الكاتب على عليوة «لم تكن القضية معركة ثنائية بين حمودة وعصفور، ولو كانت كذلك لما أثارت الاهتمام، وجذبت إلى ميدانها مثقفين عربا كبارا أمثال: فؤاد زكريا، ومحمود أمين العالم، وسعيد علوش، ويمنى العيد وغيرهم... بل هي في الحقيقة حلقة جديدة من سلسلة متصلة لم تنفصم عراها، منذ أن اصطدم العرب بسؤال النهضة والتقدم، واجتاحتهم رياح ما يسمى ب«الحداثة» أو «المعاصرة» أو «التغريب»؛ فواجهوها بأساليب متعددة وفي ميادين كثيرة؛ ثقافية وسياسية واقتصادية واجتماعية. لقد فتحت هذه المعركة الباب أمام هذا السؤال مجددا، وأعادت بصياغة مختلفة إنتاج مفاهيم كانت سائدة في بدايات القرن العشرين، وإن اختلفت المسميات أو تغيرت الأدوار وتبدل الممثلون، فالواقع أن هذا السؤال يظل في قلب كل تفكير يسعى إلى علاج حالة الفصام الثقافي التي يعاني منها العقل العربي، ولذلك نشدد على استحضار هذا السؤال ونحن نحاول قراءة كتاب عبد العزيز حمودة، الجديد من حيث الصدور والطباعة. أما الدكتور عمر زرفاوي ففى قراءته للكتاب يقول: «إن الفصل الأول من الكتاب فصل سجالي اعتبره أقطاب الحداثة تطاولا عليهم، وسخرية من منجزهم، وتسفيها لأحلامهم، فقد وصف حمودة الحداثة النقدية العربية بأنّها ولدت لقيطة، وتكرّر في خطابه النقدي عبارات من قبيل «نغمة الادّعاء المبالغ فيه»، و«لا يكفي الادّعاء الأجوف». وبسبب الطّابع السّجالي الذّي ميّز فصله الأوّل اقتصرت مناقشات أساطين التّحديث وحوارييهم على ردّ الهجوم الشّرس للدكتور حمودة، ولعلّ أوّل من بادر إلى الرّد على أطروحات الكتاب الدكتور جابر عصفور، وذلك لورود اسمه أكثر من مرّة. نهلة النمر