يولي منذ فترة القائم بالأعمال الأميركي في السودان جوزيف ستافورد اهتماماً خاصاً بمراكز التصوف، بدا ذلك واضحاً في زياراته لمواقع الطرق الصوفية في ساحة الاحتفال بالمولد النبوي، وفي زيارته لأم ضوا بان ثم الكباشي. يبدو أن الإدارة الأميركية اكتشفت متأخرة وجود مدرسة إسلامية تنطلق من فهم ديني أصيل يعين على نشر ثقافة الديمقراطية بدون التحسس من المصطلح، نفياً له أو تمسحاً به، و رغم ما للدولة العظمى من مراكز للرصد والبحث والتحليل إلا أنها تأخرت في التمييز بين المدارس الإسلامية؛ فقد ظهرت مبكرة مدرسة الإخوان المسلمين وعدّها الأميركان الترياق الإسلامي المناسب لمقاومة المد الشيوعي في بلاد المسلمين، واكتفت الإدارة الأميركية بالالتقاء مع الإسلاميين في رفض الشيوعية، وكانت أعلى درجات التعاون في أفغانستان؛ لكن ما إن دحر الغزو السوفيتي حتى تبين للإدارة الأميركية خطأ التعجل في تقوية الإسلام السياسي قبل التعمق في دراسة الفلسفة التي تنطلق منها هذه المدرسة في تحديد موقفها من (الآخر). عرف الأميركان متأخرين أنهم تعاونوا مع مدرسة تضع المخالفين في الدين في (خانة) الأعداء، وهو تصنيف أشد خطراً من موقف الديكتاتوريين من المخالفين في الرأي؛ لأن الموقف المنطلق من فهم ديني يعطي أصحابه الإحساس بالقداسة واحتكار الحق فيقدمون على الاعتقال والتشريد والتعذيب والقتل وقلوبهم مطمئنة؛ إذ يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ويرضون الله ما داموا يضيّقون على العصاة والرافضين لحكم الله بفهمهم! وبهذا الفهم وقعت المفاصلة الحادة بين الإدارة الأميركية وحلفاء الأمس القريب. لابد أن يكون للأميركان نزر يسير من المعرفة عن مدرسة التصوف، لكن بعد المتصوفة عن العمل السياسي المباشر قد يكون وراء الاهتمام الأميركي السابق بالإسلام السياسي، ظناً منهم أن أقطاب الإسلام السياسي يبدون إيجابية في مقابل موقف صوفي سلبي من الحياة العامة، وقد يكون التوجه المتأخر من الإدارة الأميركية نحو المدرسة الصوفية من مدخل أن السلبية أفضل من الإيجابية الضارة، أو قد يكون مدخلاً صحيحاً أدرك به الأميركان متأخرين أن في الإسلام مدارس تؤثر في السياسة ولو لم يتول أساتذتها مواقع في الدولة وفي الأحزاب، وهو دور يشابه أدوار الفلاسفة والمفكرين الذين مهدوا للثورات السياسية والاجتماعية في الغرب بدون أن يجلس أي منهم على عرش أو كرسي رئاسة. في قرية الكباشي قال شيخ الطريقة في كلمة استقباله للسفير: (إن شعبكم بنى دولة عظيمة على قاعدة من التنوع العرقي والثقافي والديني، ونحن الصوفية في السودان بنينا أركان الدولة في القرن السادس عشر بالمحبة والتمازج والتلاقح بين الأجناس كافة، ولم نزل على العهد نرى الناس جميعاً أحباء الله). لا شك أن السفير قد دهش وهو يسمع أن مدرسة إسلامية ترى (الناس) كلهم أحباء الله، وهو الذي حزن يوماً لمقتل دبلوماسي من بني جلدته ومن بني آدم أحباب الله، قتل في السودان بدعوى أنه عدو الله، بل يسمع بين حين وآخر عن مقتل مسلمين بتفجيرات في العراق وأفغانستان وفي حفل عرس في عمان لإرضاء الله! لا بد أنه قال لنفسه: لقد أضعنا زمناً طويلاً. هو اختلاف بين مدرسة إسلام سياسي ترى أن الاعتراف بالآخر يعني ضمناً الاعتراف بعدم كمال الدين الإسلامي، بينما ترى مدرسة التصوف أن الاعتراف بالآخر هو تأكيد لمبدأ ديني بأن كرامة الإنسان تنبع من حريته. وعندما يقول شيخ الطريقة القادرية الكباشية أمام القائم بالأعمال الأميركي: إن كل الناس أحباء الله، فهذا ليس فهماً ابتدعه الشيخ الجيلي للتو أو عبارة صكّها مجاملة لضيفه، ولن يكون بالقطع شعاراً يتزلف به من يقود مدرسة تترفع عن عرض الدنيا كلها، هو فهم لا يقف عند التبرؤ من معاداة المسلم غير المتدين بل ولا يعادي حتى غير المسلم، وذلك بفهم توحيدي يرد الهداية والضلال لله الواحد الأحد، هو فهم أشمل وأرقى لمعاني الإنسانية يتجاوز بحامله مشاعر العداء والتعصب التي يبذرها أصحاب فهم آخر منشغل بحكر الحق لدين أو مذهب بعينه، ومن ثم إباحة البغضاء لمخالفيهم واستسهال إساءة الآخرين بل وقتلهم ما داموا على غير دين الحق، لا تردهم عن ذلك فطرة سليمة تأبى الكراهية وتنفر عن الإساءة ويجذبها إكرام الناس، كل الناس. هي مدرسة ترى أن الانشغال بالسياسة وحدها يحرم الإسلام السياسي من مزايا تربوية وشروط سلوكية حين يغلظ السياسي الإسلامي في القول والفعل وهو يسعى للفوز على خصومه بأية وسيلة مهما كانت مفارقتها للدين، وينافس في ميادين لا تضيف للدين شيئا، تاركاً ميادين يتفوق فيها الدين وحده مثل النور الذي يمشي به الناس وعلم من الكتاب وما وراء السدرة حيث لا وراء. أشار أيضاً الشيخ في كلمته إلى استقبالهم الحافل لنائب الرئيس السابق سلفا كير الذي أصبح أول رئيس لدولة جنوب السودان التي انفصلت عن السودان، ولعل الشيخ أراد بهذه الإشارة التأكيد على الفهم الصوفي المساوي لكل السودانيين في حقوق المواطنة، وهو مبدأ اهتز كثيراً بسبب دعاوى التمييز السلبي للمواطنين غير المسلمين في الدولة الإسلامية بحسب رؤية مدرسة الإسلام السياسي، وقد جسّد الاستقبال الحافل للسيد سلفا كير في (مسيد) الكباشي فهماً يرى أن إكرام الضيف واجب ديني، في مقابل أفهام متعجلة تدرج استقبال غير المسلم تحت مسمى مُوَادَّة من حاد الله ورسوله، هي مدارس تشبع ميلاً شخصياً عند أصحابها نحو الغلظة ميلاً يجعلهم يرون رهن درع النبي صلى الله عليه وسلم ليهودي دلالة على موته صلى الله عليه وسلم فقيراً فحسب، متعامين عن رؤية دلالة تعامله مع يهودي في وجود أغنياء من بين أصحابه. لا بد أن يكون دافع الإدارة الأميركية في البحث عن مدرسة إسلامية متسامحة هو الانزعاج من شيوع مشاعر البغضاء والكراهية في عالم اليوم، خاصة بين الإدارة الأميركية وكثير من الإسلاميين، وهي مشاعر مدمرة مردها إلى التعصب الأعمى، حيث إن التعصب هو آفة الفكر الكبرى. وتعتبر المدرسة الصوفية الأكثر تأهيلاً لمعالجة هذا الداء، حيث إنها تفخر بدينها من غير أن تزدري معتقدات الآخرين، مدركة أن كل صاحب عقيدة معتز بمعتقده وإلا لما اتبعه. وبهذا الفهم تتجاوز البشرية آفة التعصب بعد أن ترد الأمر كله لله. نقلا عن صحيفة العرب القطرية