عانت مصر كثيراً من الطغاه.. وتصدت لكثير من الجبابرة الذين حاولوا حكمها حكما دكتاتوريا.. ودفعت الثمن غالياً.. ولكنها انتصرت في النهاية.. وانتصرت الأمة.. وأزاحت كل هؤلاء.. أو أجبرتهم علي الاستسلام.. سواء كان هؤلاء حكاماً مصريين.. أو حتي من المحتلين الطغاة.. وفي العصر الحديث كثير من العبر والعظاة. من هؤلاء كان صاحب اليد الحديدية: محمد محمود باشا الذي حكمها بالحديد والنار.. رغم أنه كان من الرعيل الأول الذي نفاه الإنجليز مع سعد زغلول إلي مالطة ولكن الشعب نجح في إسقاط هذا الدكتاتور الذي كان كل همه مقاومة رغبات الأمة.. وإبعاد حزب الوفد.. وأسقطت المقاومة هذا الدكتاتور في أكتوبر 1929.. تماماً كما حاول إسماعيل صدقي أن يحكم مصر بالحديد والنار ابتداء من يونيه 1930.. فأوقف أعمال البرلمان ثم ألغي دستور 23 نفسه ووضع دستوراً آخر هدفه ارغام الشعب علي الانحناء للدكتاتور الأكبر وهو الملك فؤاد.. وهنا تتجلي مقاومة هذا الشعب - التي يقودها النحاس باشا زعيم الوفد - وتنطلق المقاومة تعلن مقاطعة حكومة إسماعيل صدقي وبرلمانه.. لأنه غير من نظام الانتخابات وقلل من دور العمال فيها، بل ألغي دورهم.. وهدد العمد وكبار العائلات.. وفرض عليهم الغرامات.. ولكن الوفد لم يستسلم.. بل قاد أكبر عملية مقاومة ومقاطعة، لهذه الانتخابات، وما أشبه الليلة بالبارحة.. فقد زور الرجل هذه الانتخابات، وجاء بأغلبية من رجاله ومن حزبه الذي انشأه خصيصاً لذلك.. بعد أن فرض رقابة صارمة علي الصحف.. وكان كلما أغلق صحيفة.. تحايل الشعب عليه.. وأنشأ صحيفة جديدة. حقيقة ظهرت في هذه المرحلة من الصراع السياسي - فكرة تأليف وزارة قومية ولكن الوفد ويتقدمه النحاس ومكرم عبيد وأحمد ماهر والنقراشي اعترض علي هذه الفكرة.. ورأى هؤلاء القادة المضي في المقاومة وفي المقاطعة إلي أن تسقط حكومة الدكتاتور صدقي.. ومن أجل ذلك تحالف حزب الوفد مع حزب الأحرار الدستوريين.. بل وحدت انشقاق في الوفد أدي إلي خروج عدد من زعمائه عليه، وهو الانشقاق الذي عرف في تاريخ الحزب الكبير بانشقاق السبعة والنصف.. ولكن مضت الأمة كلها وراء قيادة الوفد لهدف واحد هو إسقاط الدكتاتور.. الذي كان يحتفظ لنفسه أيضا - بجوار رئاسة الحكومة - بوزارتي الداخلية والمالية.. أي ذهب المعز وسيفه، ولكن ذلك لم يضعف مقاومة الأمة.. واستمرت المقاطعة التي اقتربت من خمس سنوات إلي أن نجحت في إجبار الدكتاتور علي الإستقالة، قرر ذلك وهو خارج مصر.. وسقطت حكومته. هنا كان الدرس الأكبر.. إذ رغم أن إسماعيل صدقي أجري الانتخابات في يونيه 1931.. ورغم تزييفها إلا أن الشعب قاطعها تماماً وكان علي رأس المقاطعة العمال والفلاحون.. ورغم ذلك - فإن صدقي ملك التزوير - أعلن فوز حزبه بنسبة تزيد علي 67٪ تماماً كما يفعل الإخوان الآن وبنفس النسبة تقريبا!!. ولكن المقاطعة الشعبية نجحت في النهاية، ورحل صدقي.. وسقط دستوره الشهير «دستور 1930» وعاد دستور 23.. دستور الشعب رغما عن صدقي وعن الملك فؤاد نفسه، وتم إلغاء القوانين التي أصدرها صدقي. وما كان يمكن لهذه المقاطعة أن تنجح لولا القيادة الحقيقية التي تزعمها الوفد.. ولولا تجاوب الأمة كلها مع هذه القيادة.. لقد نجحت المقاطعة عندما وقفت مصر كلها يداً واحدة خلف قيادتها الحقيقية الداعية.. وأنا واثق أن الشعب الآن هو حفيد شعب مصر العظيم الذي أسقط كل دكتاتور.. وأن هذا الشعب هو القادر الآن علي استعادة حقه في أن يحكم نفسه بنفسه.. ولا فضل لفصيل علي فصيل.. إلا بما يقدم لخدمة هذا الوطن.. وتعلموا من التاريخ.. فمن لا تاريخ له.. لا مستقبل له.