قدمت لنا الكاتبة والباحثة التاريخية المصرية رشا عدلى فى محطتها الروائية الأخيرة «قطار الليل إلى تل أبيب» وليمة دسمة قوامها الإنسان والتاريخ والهوية.. تعرضت فيها خلال مسارات السرد للكشف عن وثائق الجينزا اليهودية المدفونة بين المعادى والبساتين حين منح أحمد بن طولون هذه المساحة لليهود فى القرن التاسع الميلادى.. والجينزا كلمة عبرية مشتقة من كلمة جينز أى «خزن ودفن» وهى وثائق تشتمل على كل ما يتعلق بصنوف الحياة بعد أن كانت تتعلق بكتابتهم المقدسة غير الصالحة للاستخدام فقط. أتخيل كم من الوقت مر بالكاتبة وقد أنهكتها الحيرة والتأمل فى إمكانية إحالة تلك الوثائق إلى متن روائى باستطاعته جذب الوعى العربى للاستبصار والوقوف على كل ما تضمنته من حقائق صادمة وكاشفة وراصدة بلغة فنية رصينة عبر كولاج من عوالم وأحداث وشخصيات وهوامش لا تقل خطورة عن خطورة المتن ذاته. قدمت لنا عدلى القالب الروائى فى صوتين متداخلين لثلاثة عوالم موازية بتكنيك آلة الزمن ليطل علينا «عزرا كوهين» اليهودى الذى كان يعيش برفقة أسرته البسيطة بحارة اليهود من ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضى.. والراوى العليم عن «مانوليا» الباحثة والمترجمة فى لجنة أبحاث الجينزا منذ 2010.. وعن الحبر والفقيه والفيلسوف الأندلسى اليهودى «موسى بن ميمون» الطبيب الخاص للناصر صلاح الدين الأيوبى.. تناولت من خلالهم سيكولوجية الشخصية اليهودية وسبر أغوارها فى أربعة محاور رئيسية لا تتغير على مر التاريخ: الإنسانية.. الصهيونية العنصرية والعرقية.. الدين والطائفية.. الهوية. وتضمنت المعالجة المطموس تاريخياً وسياسياً وجغرافياً ودينياً عن أسطورة بنى إسرائيل وتناقضاتها الفصامية المركبة المكتظة بالأكاذيب والشطط الخيالى والاهتراء القيمى والمنطقى. ساقت لنا الكاتبة كل دوافع تطرف وتشظى الوعى اليهودى وانقسامه على نفسه، وأبرزت مكانة المعتدلين من اليهود الذين نبذوا الصهيونية وخلصت بمعالجتها إلى الفطرة الإنسانية السوية والمبرأة من أى عوار دون أن يتسلل إلى القارئ شىء غير الحق. وللإنصاف فإنه كان بإمكانها أن تطرح كل ما سبق فى منجز وثائقى خالص خاصة أنها باحثة لكنها تخطت جمود البحث وكثافة وصلافة التقريرية الوثائقية البحتة إلى عالم سردى متألق لتملك قلب القارئ وتجذبه للاستبصار واستنهاض إدراكه.