الصوفيون ناضلوا ضد أعداء الأمة منذ عهد «صلاح الدين» على الرغم من ارتباط التصوف لدينا بالإسلام، إلا أن الحقائق تؤكد أن المبدأ الأساسى للصوفية يتفق مع تعاليم أغلب الديانات، حتى الوضعى منها، لأن التصوف فى أوله وآخره هو إمكانية الوصول إلى الله من خلال تجربة ارتقائية تصاعدية، وهى تجربة فردية تخص صاحبها فقط، يتجاوز فيها قدراته العقلية المحدودة، فيقتحم العقبة، ويصل إلى الفناء فى الله جل شأنه، وعند هذه اللحظة يكون صاحبنا قد وصل إلى أعلى درجات الوعى، وينفصل تماما بروحه عن جسده، حيث يستطيع أن يرى ما لا يراه غيره ويصل إلى درجة المكاشفة، فيرى كل ما هو ورائى. هذا حديث بالتأكيد وقف ضده أكثر كثيراً ممن وقفوا معه، وأنا أرى أنه على مَنْ لا يؤمن بذلك؛ ألا يُجبر نفسه على قراءة هذا الكلام، ولا يرهق أحداً بمحاولة إقناعه، فقط عليه أن يجلس فى هدوء، ويعترف أنه ليس على استعداد لاستلام الإشارات، فالإيمان بهذه الأمور للجاهزين فقط. كثيرون هم الكتاب والمفكرون الذين حاولوا تتبع خطوات الطرق الصوفية، من خلال كتاباتهم، التى جاء أغلبها بغرض تحليل علاقة هذه الطرق بالسياسة، وما إذا كانت القيم والمعارف التى تغرسها فى نفوس أتباعها تدعو إلى الانخراط سياسيا أم الانسحاب، بينما قليلة هى الكتابات التى تتبعت خطوط الروح لدى المتصوفة أنفسهم. وتعتبر رواية «خبيئة العارف» للدكتور عمار على حسن، التى تعرّضَ فيها لحياة الإمام محمد ماضى أبو العزايم مؤسس الطريقة العزمية من أهم هذه الكتابات، والتى أكدت مدى تناغم المصريين مع العارفين بالله بشكل عام، ومع الطريقة العزمية بشكل خاص، وهى الطريقة التى ينتسب لها فى مصر اليوم أكثر من نصف مليون مريد، وتقوم فى أساسها على فقه مذهب المالكية، وتعتبر من أكثر الطرق الصوفية اندماجًا فى المجتمع المصرى، كما يعتبر الشيخ علاء الدين محمد ماضى أبو العزائم شيخ الطريقة العزمية الآن وحفيد مؤسسها، من أكثر الشخصيات المثيرة للجدل، خاصة بعد دعوته المتجددة بوجوب الانخراط سياسيا للطرق الصوفية. ولذلك تحاوره «الوفد» اليوم؛ للوقوف على إجابات لكل ما يخص العزميين، وهو رئيس الاتحاد العالمى للطرق الصوفية، وعضو المجلس الأعلى لها أيضاً، ولد فى القاهرة فى 1943، وتخرج من كلية العلوم عام 1967م متخصصًا فى علم الجيولوجيا، وتولى مشيخة الطريقة العزمية خلفا لشقيقه الإمام عز الدين أبو العزائم عام 1994م. كنت أنوى قبل إجراء هذا الحوار أن يسير الحديث صوفياً روحانياً خالصاً، بعيداً عن التيارات والمواقف، لكن الحديث ذهب وحده إلى أزقة السياسة وحواريها، لأكتشف بعد ذلك أن الأمر متشابك حد التضافر، وللحد الذى يصعب فيه فكه. وبدلاً من أن أبدأ أنا الحديث بسؤاله، بادرنى هو سائلاً؛ ما انطباعك عن الصوفية؟ ثم أجاب مستنكراً: أكثر ما يحزننى فى الحديث عن الصوفية وأصحابها فى مصر؛ أن أغلب الوعى الجمعى يعتقد أن أصحاب الطرق الصوفية هم جماعة «الذكر» الذين يدورون فى حلقات. وما الحقيقة إذن؟ لا الحقيقة شىء آخر؛ فالتاريخ يحكى غير ذلك، فالصوفيون مناضلون منذ عهد صلاح الدين الأيوبى وقت أن أخذ على عاتقه تحرير فلسطين. حيث ساعده أقطاب الصوفية فى ذلك الوقت وهم؛ سيدى عبدالرحيم القنائى، وسيدى عبدالقادر الجيلانى وآخرون، صحيح أنهم لم يحاربوا بأنفسهم، لكنهم أمدوه بالرجال والعتاد والزاد. وعلى مدار الحروب الصليبية كلها لم ينقطع دور الصوفية فى المساعدة، فمَنْ يستطيع أن ينسى شخصية الشيخ العز بن عبدالسلام الذى وقف إلى جانب «قطز»، وساعده فى تجهيز الجيش ضد التتار فى مصر؛ وكذلك أئمة الصوفية الكبار، سيدى أبو الحسن الشاذلى والذى كان على الرغم من أنه ضرير إلا أنه تواجد فى ساحات المعارك يدعو الناس إلى الجهاد، وكذلك سيدى إبراهيم الدسوقى الذى أخذ على عاتقه إرسال كل ما يحتاجه المحاربون من لوازم الحرب والحياة، بينما سيدى أحمد البدوى هو مَنْ نال شرف القتال والنزال فى أرض المعركة وحارب فعلياً، وربما كان ذلك هو السبب الرئيسى فى حقد تيارات كثيرة عليه، ووصل الأمر لاتهامه بالتشيّع. وهنا كان لا يمكن أن أضيع الفرصة دون أن أسأله؛ نحن جميعاً على علم بنقاط الاتفاق بين السنة والشيعة، لكن ما نقاط الخلاف؟ الخلاف التاريخى والأبدى بين السنة والشيعة؛ أنهم يرون أن سيدى علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه كان أولى بالخلافة من الخلفاء الراشدين، وأنا شخصياً كنت قد طلبت من الدكتور على جمعة وقتما كان مفتياً للديار المصرية، أن يلقى هنا فى مقر الطريقة محاضرة عن الشيعة ومدى الاختلاف والاتفاق بينها وبين السنة، فما كان منه إلا أن قال: «لا خلاف بين السنة والشيعة فى الأصول، لكن الخلاف يأتى فى بعض الفروع». إن كان هذا موقفكم من الشيعة، فما موقفكم من الوهابية؟ لا يمكن لأى عاقل أن يتفق مع التشدد، كما أنه ليس على أى مسلم أن يوافق على التسيب، لذلك، لماذا علينا دائماً أن نذهب إلى أحد طرفى الخيط، والحل بسيط، وقد بيّنه لنا الرسول الكريم منذ ألف وخمسمائة عام، «فالإسلام دين الوسطية»، والتمسك بطرف الخيط المتشدد يجعل العالم بل والمسلمين أنفسهم فى حالة استنفار لهذا الدين الذى يُحرم عليهم الحياة، ولا يقل فى ذلك استنفاراً الطرف الآخر الذى يدعو للتسيب والإفساد. وما رأيكم فى أداء المؤسسة الدينية الرسمية للدولة المتمثلة فى الأزهر الشريف؟ كنت أتمنى أن يكون للأزهر موقف أكثر وضوحاً فى بعض الأمور، فقد أخذنا عليهم بعض المواقف، مثل رفضه إصدار فتوى تكفير الدواعش، فإن لم يكن من يقتلون المسلمين ويروعون الآمنين كفاراً! فمنْ الكفار إذن. كما هو معروف؛ الإمامة فى الطرق الصوفية قائمة على التوريث، وأنا على ثقة بأنك ترى أن هذا فى الصالح، لكن كيف يكون ذلك فى صالح الطريقة؟ لأنه ببساطة قوة أى طريقة تأتى عن طريق محبة مريديها وأهلها لشيخهم وارتباطهم به، حتى يستطيعوا معاً الحفاظ على الطريقة وعلى تواجدها، فإذا ما رحلتُ أنا فى أى وقت، فإخوانى فى الطريقة متعلقون بابنى ويحبونه الحب الذى يحبونه لى، ووقتها يظل الارتباط وثيقاً بين الشيخ وأبناء الطريقة، لكن إذا ما ذهبنا إلى الانتخاب مثلاً، وترشح اثنان أو ثلاثة، انقسم حب المريدين على هؤلاء الثلاثة، ولن يفوز سوى ثلث هذا التعلق، وعلى هذا تضعف الطريقة، فشيخ الطريقة له تأثير كبير على أبنائها. وعلى هذا فكان عليك أن تُعد ابنك لهذا المنصب، كيف يتم ذلك ومن هو شيخ الطريقة العزمية القادم؟ بالتأكيد أنا أُعد ابنى لهذا المقام منذ بداياته، وهو المحاسب أحمد علاء الدين ماضى أبو العزايم، من مواليد 1978 ويعمل فى إحدى شركات البترول، ومُتابع ومشارك باهتمام لنشاط الطريقة وعلى دراية كاملة به. الشيخ عز الدين ماضى أبو العزائم، الشيخ السابق على ولايتك للطريقة، كان أخاً لك، ولم يكن والدك، كيف تم ذلك؟ أخى الشيخ عزالدين، كان لا ينجب، وقانون الطرق الصوفية، يُقر بأن الإمام إن لم يكن له ولد، فله أن يوصى بالإمامة من بعده لمن يراه مستعداً لحملها، وقد أوصى أخى لى بها، وقد أيد أكثر من ثمانين فى المائة من أبناء الطريقة هذه التوصية بفضل الله. للطريقة العزمية أنشطة خيرية معروفة من مساعدات مالية أو غيره، وهذه النقطة تصل بنا إلى الدعم المالى، من أين تتلقاه الطريقة؟ تعتمد الطريقة على مساهمات أعضائها فقط، وهى تقوم على حاجاتها والحمد لله. ما عدد الصوفيين فى مصر؟ عدد الصوفيين فى مصر بأى حال من الأحوال لن يزيد على خمسة ملايين صوفى، هم المسجلون بشكل رسمى، أما إذا تحدثنا عن محبى الصوفية، فأنا أثق أنهم يزيدون على خمسين مليوناً، فلا بيت فى مصر يخلو من الهوى الصوفى، ففى مصر حوالى مائة طريقة، مسجل منها حوالى ثمانين طريقة، والبقية غير مسجلة بشكل رسمى. هذا عن الصوفية بشكل عام لكن ماذا عن الطريقة العزمية تحديداً؟ أبناء الطريقة العزمية تحديداً يصل عددهم إلى حوالى نصف مليون عضو، بينما أنا على يقين أن عدد مريديها يزيد على خمسة ملايين شخص. وماذا عن الإذن بالذكر فى الطريقة، والأوراد الخاصة بها والحضرة؟ الطريقة العزمية لها عدد من الأختام والأوراد الخاصة، ففى صلاة الفجر يحين موعد أول ختم فى اليوم، ويمتد لمدة نصف ساعة، ليعاد فى الصباح مرة أخرى، ثم فى صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وهو عبارة عن بعض الآيات القرآنية، كما أن هناك وردين صباحى ومسائى، يقال فيهما «استغفر الله العظيم إن الله غفور رحيم»، 100 مرة، و«ولا إله إلا الله له الملك وله الحمد» 100 مرة، ثم الصلاة التفريجية على سيدنا محمد عليه أفضل الصلوات 100 مرة أيضاً، أما الحضرة فتكون يومى الأحد والأربعاء، وهى عبارة عن آيات قرآنية، ثم الصلاة على النبى، وفى الختام يحين موعد تلاوة قصيدة خاصة بالطريقة يحفظها الجميع. وما دور المرأة فى الصوفية؟ فى الواقع أن المرأة دورها محدود جداً فى الطرق الصوفية، ولا توجد نساء مسجلات بشكل رسمى فى الطرق الصوفية، لكن ليس هناك مانع من أن يكون هناك مريدات للطريقة، كأن تحضر إحداهن الحلقات مع زوجها أو أخيها أو أبيها، وهذا ليس تقليلاً من شأن المرأة إنما هو نوع من الحفاظ عليها، حتى لا يتقول عليهن القائلون. هل التصوف طريقة تعبّد موقوفة على الإسلام، أم أن كل الديانات بها تصوف؟ كل الديانات بها تصوف، لأن التصوف ببساطة هو الصفاء الداخلى، قبول الآخر، التسامح، التخلص من كل مشاغل الدنيا، والانشغال فقط بالخالق، وليس هناك دين لم يدعُ إلى كل ذلك، فاليهودية بها تصوف، وكذلك المسيحية. وماذا عن تأثير التصوف على الغرب؟ أكثر ما عرف الغرب من الصوفية كانت الصوفية الإسلامية، فالصوفية هى التى تنشر الدين الإسلامى فى الغرب، وليس أى تيار آخر يحسب نفسه على الإسلام، خاصة بعدما تُرجمت أعمال ابن الرومى وابن عربى إلى كل اللغات، ولهذا نجد أن أغلب من يعتنق الإسلام فى الغرب يكون بناء على قراءة هذه الكتب. لا جدال أن الطرق الصوفية تحاول أن تجد لها دوراً على المستوى السياسى الداخلى، ماذا عن الشأن الخارجى؟ فى الحقيقة أن الطرق الصوفية ليس لها شأن بالسياسات الخارجية للدولة، لكن أنا فى مسألة سد النهضة، كنت أتمنى لو كان هناك حوار بين الطرق الصوفية المصرية ونظيرتها فى إثيوبيا، فعدد المسلمين هناك أكثر من سبعين فى المائة، والطرق الصوفية هناك مسموعة الكلمة، فربما لو كنا عقدنا معهم مؤتمراً من أجل تقريب وجهات النظر بشأن سد النهضة، كنا وصلنا لشىء ذى حيثية. وما رأيكم فى إقامة الموالد فى مصر؟ خزعبلات وأنا لا أقبل بوجودها بشكل دينى، لكنها متواجدة فى مصر بشكلها الشعبى فقط وليس الدينى. الرئيس «السيسى» أصدر منذ أيام توجيهاً بتجديد أضرحة آل البيت فى مصر بشكل لائق، ما تعليقك؟ هذا يعكس اهتمام ومحبة الرئيس لآل البيت، الذين هم جزء من وجدان المصريين وعقيدة أغلبهم. لدىّ معلومات أن الطرق الصوفية شاركت فى ثورة 1919، فماذا عن ثورة 1952؟ هذا السؤال يأخذنا إلى حقبة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وأنا شخصياً أرى أن «ناصر» قدم لمصر مشروعاً كان من الممكن أن يضع مصر فى مكانة مختلفة كلياً، فقد طلب عبدالناصر من أساتذة الجامعات ومراكز البحث ترجمة جميع المراجع العلمية الضخمة إلى اللغة العربية، وهذا المشروع كان فى غاية الأهمية، لأن هناك جزءاً من العلوم الطبيعية؛ مثل الكيمياء والفيزياء وهبى؛ بمعنى أن الله يهبه لمن يشاء، لذلك ربما لو طالع أبناء الأمة الإسلامية هذه العلوم بلغتهم لغة القرآن، كان منحهم الله هذه الهبة، لكن للأسف لم يتم المشروع بالشكل المرجو منه، لذلك لم تأت النتائج المرجوة. وماذا عما بعد ذلك وهى فترة الرئيس أنور السادات؟ كانت فترة حكم الرئيس أنور السادات من أكثر الفترات التى تمكّنت فيها الطرق الصوفية، ففى عهده تم إرساء قانون الطرق الصوفية الذى ما زال يُعمل به حتى الآن، كذلك هو الذى أمر بتخصيص مقر لمشيخة الطرق الصوفية، كما أصدر قرارًا بتمويل المجلة المهتمة بالشأن الصوفى فى مصر وهى مجلة «التصوف الإسلامى»، مع تخصيص مبلغ ثلاثين ألف جنيه كدعم لها.