آذت مشاعري تلك اللقطة التي جاءت في الصفحة الأولي لجريدة «الوفد» بتاريخ 23/1 أي قبل الذكري الثانية للثورة بيومين، لطفلة صغيرة تقضم من بقية رغيف عيش في يدها، والبؤس والفاقة يلفان الصورة بتفاصيلها الأخري الكثيرة، الطفلة تأكل من الرغيف بدون غموس، تأكل العيش الحاف.. وتذكرت علي الفور المثل المصري القديم الشائع في الريف والقري والنجوع (العيش الحاف يربي الكتاف)، ولم أعرف علي مدي علمي أن وطناً أو بلداً أو دولة في العالم أطلق علي الخبز اسم العيش إلا مصر، كناية علي أن العيش هو قوام الحياة وعليه تقوم المعيشة لغالب سكان هذا البلد علي مدار العصور، وأقصد السكان الحقيقيين الأصليين الذين عاشوا دائماً علي هامش الحياة مكتفين بالخبز كوسيلة أساسية للبقاء، والفلاح المصري الفصيح يعرف قيمة الخبز في حياته، والفلاح الطيب البسيط يأخذ ضمن أغراضه في الصباح المبكر وهو سارح إلي الغيط (الحقل) يجر مواشيه وحماره (الزوّادة) وهي صرة في منديل محلاوي كبير أغلب ما فيها هو العيش، الخبز الذي صنعته زوجته أو أمه أو أخته علي نار الفرن حسب ما يتيسر لذلك من دقيق إما العيش البطّ، أو العيش الرحّ، أو الأبابير وهي أطري أنواعه ولا أقول الفطير المشلتت أو الكماج أو غيره من خبز الموسريين.. ونجد بجانب العيش في الزوّادة قطعة أو اثنتين من الجبن القديم المغموس في المش وبصلة أو بصلات، ثم إذا تيسر له من الحقل الذي يزرعه عود سريس أو ثمرة طماطم أو عود جرجير تكون وجبته قد اكتملت، وعليه أن يواصل عمله حتي مغيب الشمس ثم يعود لداره لتحلب له زوجته أو أمه أو ابنته أو أخته اللبن الذي «يسقّي» فيه العيش أيضاً، ويصلي وينام وهكذا كانت تدور الأيام بالفلاح المصري الزارع للأرض التي لا يتملكها أبداً، ثم جاءت ثورة يوليو 52 وأصلحت من حال الفلاح بعض الشيء، ولكن ظل العيش أساس معيشته وحياته حتي وقتنا هذا، وفي المدن في أحيائها الشعبية وفي مناطقها الفقيرة وما أكثرها نجد أن الخبز يمثل الأهمية الكبري في التغذية للأسرة المصرية البسيطة حيث تجتمع الأسرة في الصباح حول طبق الفول وبعض قطع الطعميّة ليكون هذا الإفطار الذي تتناوله الأسرة المصرية الفقيرة وما أكثرها عماده وركنه الركين هو الخبز (العيش). وهو كما يقال في تلك الأوساط الفقيرة الكثيرة (مسمار البطن) وعليك أن تفسر بنفسك هذه العبارة الموحية الجامعة لهذا الغذاء إلهام للبسطاء. أما القدماء المصريون العظام فقد سطروا في لوحاتهم ورسوماتهم الرائعة كل ما يخص جني القمح والشعير وموسم الحصاد، وكانت سنبلة القمح والتي يصنع منها الخبز تمثل الأهمية القصوي للمصريين علي مدار الدهور والأعوام، وكما هو معروف فإن مصر كانت سلة الغلة في العالم القديم وأنه عندما كانت تحدث المجاعات في العوالم الأخري كانت شعوبها تهرع إلي مصر المحروسة كطوق نجاة من الجوع، وقصة سيدنا يوسف عليه السلام في مصر، الذي طلب من الملك المصري أن يجعله علي خزائن البلد ليدير أمره بحكمته وعلمه وأمانته فيما رواه القرآن الكريم (اجعلني علي خزائن الأرض إني حفيظ عليم) صدق الله العظيم. وبالمناسبة لم يكن يوسف عليه السلام من أهل أو عشيرة الملك ليتأكد أن المناصب العليا في الدولة إنما تكون لذوي العلم والأمانة، ثم إنه حدث قحط لسبع سنوات عجاف رتب فيها يوسف عليه السلام الأمر لتمضي عجلة الزمن دون كوارث إلي أن عاد الخير فيما تلا من سنوات، وخلال هذه السنوات العجاف كانت الوفود من البلدان المجاورة تأتي إلي مصر الخير لتأخذ حصتها من الغلة لتطعم شعوبها الجائعة. هذه مقدمة أسوقها بمناسبة ما تردد قبيل ذكري الثورة الثانية من اعتزام الحكومة ومسئوليها تنفيذ مشروعها العامر بتحديد عدد ثلاثة أرغفة مدعمة لكل فرد من أفراد الشعب المصري المنكوب في حكوماته ومسئوليه بواقع رغيف عيش واحد في الطقّة (الوجبة) يستوي في ذلك الصبي الصغير والطفلة والشاب والشيخ الهرم والرجال والنساء، الكل سواسية، أما رغيف العيش المدعم من الدولة المصرية التي كانت كما أسلفنا، الجميع الآن في عصر الإخوان وحكومة الإخوان عصر النهضة المزعومة عليهم أن يعيشوا علي ما قررته حكومتهم الرشيدة، وكان الناس قد استبشروا خيراً بعدما أسقطوا الحكم الظالم الذي جثم علي صدورهم ثلاثين عاماً واستبدلوه بالناس بتوع ربنا موزعي الزيت والسكر وغيرهما في المناسبات الانتخابية وقالوا في أنفسهم إن أيامنا الحلوة قادمة فإذا بالواقع المرير ينزل بهم إلي درك لم يكونوا أبداً يتخيلونه.. وإذا باللازم الضروري للحياة، الذي بغيره لا تكون هنالك حياة للبسطاء ينزل إلي هذا المستوي المتدني بحجة أن الدعم صار عبئاً علي الدولة وعلي اقتصادها المنهار، أنا هنا لا أتكلم عن النواحي الاقتصادية ولا أسباب حدوث أزماتها ولا كيفية الخروج منها أو علاجها، ولا كيف تتخبط حكومة قنديل، والقنديل يضيء وحكومة الدكتور قنديل ليس لها من اسمه شيء، بل إنها «خلتّها ضالمة» كما يقال في مأسور الكلام. ولا أتكلم علي الرغيف السياحي الذي يباع في الشوارع المهمة بأسعار ليست في متناول مستهلكي العيش المدعم الذي هو الشعب الحقيقي في هذا البلد ولكن أقول بمنتهي البساطة أن الخبز هو عيش المصريين، وأقصد بالمصريين هنا المصريين الحقيقيين من البسطاء والفقراء والمعدومين الذين يملئون مصر ريفها وحضرها قراها ونجوعها، أحيائها الشعبية وحواريها وأزقتها، مقابرها التي اتخذوها مأوي بعدما عزّ عليهم السكن في غيرها.. هؤلاء هم المصريون الذين هبّت ثورة 25 يناير 2011 من أجلهم ورفعت شعارها وكان أول كلمة في الشعار كلمة (عيش). إننا نعيش الفوضي بكل أشكالها سياسية واقتصادية ثقافية وحياتية والذكري الثانية للثورة تحولت إلي دماء وأشلاء وفوضي عارمة، الشرطة طالت أزرعها علي الشعب الذي خرج في ذكراه ينعي حظه ويطالب بحقه وحدث ما حدث في مدن القناة وفي كل مصر من أقصاها إلي أقصاها، ولو أن الأمور كانت تسير بطريقها الطبيعي والحياة تفتحت أزهارها أمام الناس في العامين الماضيين ما حدث شيء مما حدث.. وسيحدث الأكثر والأدهي ولا شك. إن العيش الكريم الآمن هو كل ما يريده المصريون ويعملون له ويأملونه من حكامهم وقادة مسيرتهم.. وأنا أسمح لنفسي هنا أن أطلق صرخة مدوية مثل الذي أطلقها في القرن الماضي أستاذنا عميد الأدب العربي طه حسين حين قال: (إن العالم كالماء والهواء حق لكل مصري).. أقول بتواضع التلميذ: «إن الخبز كالماء والهواء حق لكل مصري يأخذ منه حتي يشبع».. فكما يستنشق المرء من الهواء ما يملأ رئتيه ويشرب من الماء حتي يرتوي ويأخذ من العلم قدر ما يستطيع فمن حقه أن يأكل من الخبز (العيش) حتي يشبع.. فهذا حقه في الحياة وهو أدني الحقوق للعيش الكريم وحتي لا يصاب بأمراض فقر الدم مع الهزال وغيرهما بعد ما عزت عليه الأطعمة المتاحة للقادرين وعز عليه خبز الموسرين. هذا هو حظ الفقراء في هذه البلد للأسف.. رضوا بالهمّ والهمّ مش راضي بيهم - كما يقال - ألا يكفيهم عقاباً أنهم ارتضوا بالرغيف المدعمّ المريض بالأنيميا والمكرمش المتكوّر علي نفسه اتقاء النظر إليه خزياً وخجلاً.. ارحموا الفقراء في أرض مصر.. يرحمكم الله.