من خلال أدبيات العرب السياسية اليوم وتدافعاتهم الحزبية والطائفية نقرأ جهل النخبة العربية بالوضع الدولي الراهن أو تجاهلها له فكأنما العالم العربي يقع جغرافيا في المريخ وكأن العرب من أهل الكواكب البعيدة حطوا على الأرض صدفة . وكأنما القوى الأخرى الأمريكية والأوروبية والروسية والصينية لا يهمها ما يقع من أحداث متسارعة في العالم العربي بل وكأن القوى الإقليمية في الشرق الأوسط غائبة عن ساحة العرب ولا مطامع لها مع أن واقع لعبة الأمم يفرض علينا أن نتابع ألاعيب إسرائيل وأن نتحالف مع قوى إقليمية مسلمة نشاطرها الدين والحضارة مثل إيران وتركيا وأبعد منهما ماليزيا وإندونيسيا وأفغانستان وكذلك الجمهوريات المسلمة التي استقلت عن الاتحاد السوفييتي الهالك بتسميته الجديدة اتحاد الجمهوريات الروسية. مع هؤلاء جميعا نلاحظ بأن إسرائيل هي التي تحاول تحريك المياه العربية الراكدة في اتجاه تواصل الاحتلال وإنهاك المقاومة وبذر الشقاق بين الإخوة بمواصلة عزل الضفة عن القطاع وتأليب الدول الغربية على الدولة الفلسطينية الناشئة الوليدة في حضن المنظمة الأممية. والحقيقة التي ربما لم نعرها أهميتها المستحقة هي أن العالم العربي يقع في قلب أزمات الكون ويشكل بمواقعه الإستراتيجية الحساسة وثرواته النفطية والغازية أهم بؤرة راهنة ومستقبلية للصراع العالمي القائم منذ بدأ التاريخ على المصالح ومواطئ الأقدام ومناطق النفوذ فمن هذا الشرق انبثقت الرسالات السماوية الثلاث ومنه انطلق (دينامو) الاقتصاد وعصب السلم والحرب أي النفط وفيه تشكلت أبرز الحضارات المتعاقبة من كنعانية وفرعونية وأشورية وبيزنطية وإسلامية وفي صلبه أيضا تعايشت الأديان المختلفة والثقافات المتباينة والأعراق المتنوعة دون إقصاء ودون عنصرية. فكان الشرق مهد الحضارة الإنسانية بهذا المفهوم الوفاقي الذي عاد اليوم مع الربيع كقيمة سامية ومثل أعلى ويكفي أن نذكر بالنازية الألمانية والفاشية الإيطالية اللتين ولدتا وترعرعتا في القارة الأوروبية ما بالعهد من قدم في ثلاثينيات القرن العشرين وما أنجر عنهما من بلاوي الإبادة الجماعية وإعدام اليهود والغجر واكتساح الأمم بالحرب والحرق والتدمير بالإضافة إلى استعمال الجيش الأمريكي للقنبلة النووية على هيروشيما وناجازاكي في أغسطس 1944 لندرك أي انحطاط رهيب ضرب هذا الغرب المزهو بتاريخه والمتبجح بالقيم الكونية كأنه صانعها ومصدرها لنا نحن المسلمين بينما الغرب في أعماقه الدفينة رافض لمن سواه من الحضارات ومناديا بصدامها على لسان (هنتنجتون). علينا اليوم أن نعرف كيف ولماذا ننزلق نحن أبناء هذا الشرق التاريخي الأشم نحو منحدرات العنف والقتل وإلغاء الآخر المختلف في حين أن بعض شعوبنا انتفضت ضد الاستبداد فيما سمي الربيع العربي فنرى أمام عيوننا المندهشة تواصل الحرب الأهلية في سوريا دون أمل في حقن الدماء البريئة حتى أصبح معدل الضحايا يوميا يتجاوز المائة وهو ما يعني أن استمرار مسلسل الدم سيقضي على مئات الآلاف من الأبرياء في ظرف سنة واحدة قادمة وتلعب الولاياتالمتحدة على تقسيم المعارضين إلى مقبولين وإلى مرفوضين (لأنها أدرجت جبهة النصرة ضمن قائمة الإرهاب). وفي مصر لدينا انطباع بأن هذا الشعب العريق الأبي بات منقسما إلى شقين متضادين بل عدوين وهما شق يرى في محمد مرسي وفي دستوره رمز الشريعة والهوية وشق يرى في محمد مرسي وإخوانه رمز القهر والتقهقر وإقصاء القيم الكونية. ونجد أنفسنا أمام اتجاهين متعاكسين يسيران نحو التطرف وغلق باب الحوار وكان الاستفتاء فرصة لبروز التعصب والتعصب المضاد وتهرب المصريون من الحوار كأنه إقرار بالهزيمة أو اعتراف بالخطأ. وعادت شعارات العنف السياسي لتتغلب على القلوب والضمائر. وفي تونس تنفسنا الصعداء حين تراجع الاتحاد العام التونسي للشغل عن الإضراب العام المعلن ليوم الخميس 13 ديسمبر شعورا من قادة المنظمة الشغيلة المناضلة بالمسؤولية تجاه شعب انتظر الكثير من الثورة ولم ير ما تحقق بعدها من مكاسب الحرية وحقوق الإنسان لأن معضلاته الاجتماعية تفاقمت والمعيشة صعبت والأمن تقلص وهو وضع عادي ما بعد التحولات العميقة في كل بلدان العالم. لكن التشنج الراهن بات يهدد السلام الاجتماعي الذي يميز هذا الوطن منذ تاريخ قرطاج وعاش التوانسة على مدى قرون لا تفرقهم طوائف ولا تقسمهم عقائد بل جمع بينهم علم أحمر تزينه نجمة الإسلام بأركانه الخمسة أي أن هذا الوطن الذي كان محطة الفاتحين نحو الأندلس ظل مسلما وظلت هويته لا إله إلا الله محمد رسول الله مع انفتاح كريم وعادل على محيطه المتوسطي الإفريقي والمشرقي. وفي ليبيا نشهد على بطء تركيز مؤسسات الدولة لأسباب قبلية وإيديولوجية جعلت المواطن الليبي يستقيل تدريجيا من العمل العام ويعتكف طالبا الستر وحسن الختام وهو يرى مصطفى عبد الجليل أحد رموز القضاء على جنون العقيد مجرورا إلى القضاء الجديد مهددا بالمحاكمات الكيدية وتصفية الحسابات العشائرية. اللهم رضاك عن هذه الأمة وارفع عنها الغمة. نقلا عن صحيفة الشرق القطرية