مها عبدالفتاح يعاودني من حين لآخر خاطر ما يدفع إلي تفقد كتاب قديم سبق وقرأته ، فأما المعاودة هذا الأسبوع لكتاب صامويل ب . هنتنجتون - صدام الحضارات - هذا الكتاب السياسي الاشهر الذي نشر في نحو منتصف التسعينيات فأثار جدالا ومعارضة علي طول الخط مستمدة غالب الامر من العنوان لا أكثر .. ونخص بالذكر في هذا الشأن عالمنا العربي الذي بقدر ما تتناقص فيه القراءات يزداد فيه ويستشري عدد الكتاب! رفضه حقا كل من قرأه للمرة الاولي حينها، وفي جميع الدول والقارات ولكن .. من يعاود إليه حاليا بعد مضي كل هذه السنين ومعايشة كل تلك الاحداث العالمية منذ ذلك الحين سيجد عجبا ! في القراءة الحالية تجد حركة الاحداث في العالم وكيف سارت في دروب وغيرت مسارات واتخذت توجهات ستدهش .. فأما أهم ما جاء في كتاب التسعينيات هذا عن هذا الجزء من العالم الذي يخصنا فهو ما يتعلق بإسرائيل كدولة نووية...! يبدأ الكتاب بتلك الفرقعة المدوية التي انطلقت علي حين غرة في أول التسعينيات كما لو أنها فاجأت العالم دون مقدمات لا ذهنيا ولا فكريا ولا بقدرة علي استيعاب ... انهيار الامبراطورية السوفيتية ونهاية الحرب الباردة، ذلك التحلل السريع للاتحاد السوفيتي كما لو ترك وراءه فراغا وامتلأ في وقت قصير بطموحات اقامة نظام عالمي جديد بشروا بولادته من رحم النجاح الذي حققته امريكا في حرب عاصفة الصحراء : أو تحرير الكويت .. ثم ظهر أنه حمل كاذب! المهم ان تصادف نشر هذا الكتاب مع أنباء انتصار قوي التطرف الإسلامي في افغانستان بكل رجع صداه وردود الافعال المتباينة حياله لدي المجتمع الدولي ... و لكن لم يحظ الاسلام المتطرف وحده بالتركيز في الكتاب بمثل ما كان في المقال الذي سبق ونشر هنتنجتون في الشهرية العالمية المتخصصة في الشئون الدولية "فورن أفيرز" .. انما في الكتاب تناول الحضارات الاخري المؤهلة للصدام مع الحضارة الغربية.. فالمؤلف قد بني الكتاب بتوسع علي أسس ما جاء في المقال الذي اثار يومها انتباها غير عادي .. في الكتاب يعرض رؤيته المستقبلية للحضارات القائمة : صينية - يابانية - هندية - اسلامية - غربية - روسية... وجعل لكل منها دولة في موقع (القلب) منها فهي مركزالثقل والاهمية .. وبناء علي ذلك اعتبر السياسات الكونية في القرن القادم ( الواحد والعشرين الذي نعيشه ) سياسات متعددة الثقافات. من أهم ما في الكتاب في تقديري الشخصي هو تأكيده علي ان ميزان القوة بدأ يتحرك ببطء محولا مركز الثقل من الغرب في اتجاه الحضارات الأخري ... بمعني ان هنتنجتون توقع (في التسعينيات) بأن تدهور الغرب سيكون بطيئا، بما يعني لن يقع في دفعات متعاقبة ولا بخطو سريع كما حدث مع الشيوعية مثلا وانما قد يستغرق الاضمحلال عدة قرون قد تكون ثلاثة أو أربعة ! أما ابتداء من العقد الاول في القرن الجديد (أي ما نعيشه حاليا) فهو قد توقع ظهور بوادر هذا الضعف أو الوهن الغربي مقارنة بالحضارات الاخري، وهذا رغم استمرار تفوق تكنولوجيا الغرب.. توقع الكتاب ظهور صراعات صغيرة بداخل كل حضارة بين ثقافاتها المتعددة إلا أن الصراع الرئيسي أو المركزي فهو الذي يقع بين حضارة الغرب والحضارات الأخري! استغرق هنتنجتون معظم الكتاب في تشخيص وتوصيف معالم الحضارات المختلفة تلك ، وكيفية تطورها وتفاعلها و هذه هي اكثر أجزاء الكتاب تطويلا ومللا للقاريء حتي تكاد تسد شهية المضي في القراءة ، لولا أن في منتصف الكتاب الذي يقع في 320 صفحة تحدث الصحوة .. حيث يعرض تجسيدا لفكره الذي يطرح فيه صدامات المستقبل التي تنشأ غالبا من تفاعلات بين الصلف الغربي و.. عدم التسامح الاسلامي و.. العناد الصيني! بمعني آخر تفهم ضمنيا أنه يري احتمالات الخطر الروسي أقل حدة من اخطار التوسع الصيني الذي يتوقعه! الفصل الاخير يقدم ما يشبه (سكتشات) أو رسوما سريعة لتخيلات قاتمة تلقي بظلالها فحدد بعض اهم ما يجيء في الكتاب وهو نماذج الصراعات الثقافية بداخل كل حضارة واثرها علي الصدام الخارجي بين الحضارات وبعضها.. نجده يقدم نموذجا لاندلاع الحرب بين الصين وفيتنام فتتدخل الولاياتالمتحدة ضد الصين الي جانب فيتنام .. ويعرض نموذجا لامريكا التي لن تكون نظيرا للصين من حيث القوة علي الارض، فتضطر الي ان تستعين بحلفائها الاطلنطيين وهنا يتوقع أن تقف معهم روسيا ضد الصين.. هذا بينما العالم الاسلامي واليابان ينضمان إلي الصين! من ناحية اخري وصراعات الثقافات ما يقع منها في الشرق الاوسط، بين اسرائيل وجيرانها .. حيث يعقب في مرحلة ما هولوكوست تفجير نووي مدمر لاسرائيل وغيرها ! من بين كل الركام تظهر امريكا اللاتينية وافريقيا بلا خسائر تذكر نسبيا... ثم ان هذا الكتاب يعتبر أقرب الي تصور مستقبلي برؤية مفكر سياسي صاحب نظرية خاصة به ، تقبلها أو ترفضها إلا أن الغد القريب والبعيد شاهد وكذا التاريخ... عموما فلا يجب ان يتخذ الكتاب كنبوءات علمية لان هنتنجتون بالتصور شبه الروائي الذي قدمه في الكتاب انما يضم نصحا للسياسة الامريكية بتحاشي التدخل في الصراعات الثقافية داخل الحضارات الاخري، وهو لون من نصح ليس بالتأكيد علي هوي اسرائيل ... بل علي الولاياتالمتحدة باعتبارها (القلب) للحضارة الغربية أن تنهج الي التفاهم مع الدول (القلب) في الحضارات الاخري لتوقف معهم أو ليطوقوا معا بؤر الصراعات ... علي المستوي المنظور ينصح بلاده أن ترسخ تحالفها مع الاوروبيين أكثر وتعمق روابطها مع جيرانها الجنوبيين من اللاتينيين لتدعم حضارة الغرب وتثبتها وتقويها ... من ناحية أخري ينصح باتخاذ سياسة متحفظة تجاه روسيا التي يعتبرها الدولة (القلب) لحضارتها المنفصلة في حد ذاتها... فهي في نظريته لن تكون أبدا جزءا من حضارة الغرب ولو انضمت الي حلف الاطلنطي، انما ستظل كما يراها : حضارة قائمة بذاتها وقد تصطدم في مرحلة ما بحضارة الغرب ! ومستويات الجدل والنقاش ..تصنيف الكتاب لدي بعد القراءة الأولي أنه أقرب لرياضة ذهنية لنظرية تنشط الفكر وترفع مستوي الجدل والنقاش لا اكثر و لكن .. تتابع الاحداث العالمية منذ ذلك الحين بدروبها ومسالكها هو ما دفعني لمعاودة قراءته مرة اخري هذه الآونة ... صدام الحضارات وإعادة صنع نظام عالمي جديد. الناشر سايمون وتشوستر .