قليلون هم المؤثرون. وقد تمر بنا الحياة وتصل إلى شاطئها الأخير دون أن يصادفنا أحد هؤلاء. إلا أن هناك من لا يُختلف على عمق أثره وعظيم تجلياته في أجيال متعاقبة. وكيف لا والمؤثر الذي نحن بصدده هو أحد أعظم الرواة في العصر الذهبي للأدب الروسي، من تمت ترجمة أعماله لأكثر من 170 لغة مختلفة. فيودور ميخايلوفيتش دوستويفسكي؛ ذلك الروائي الروسي الأشهر، الذي توفي عام 1881، أي منذ ما يقارب المائة والأربعين عاما، ومازالت أعماله الأدبية محط إعجاب وتساؤلات والتفاف الدارسين والباحثين. مائة وأربعون عاما، ومازلنا نبحث عن ترجمات بعينها لرائعتيه " الجريمة والعقاب"، و " الإخوة كارامازوف"، وتتسارع أكفنا لالتقاط أي عنوان يحمل قبله اسم دوستويفسكي مائة وأربعون عاما ومازال إبداعه يثير المتعة ذاتها وينتزع الدهشة نفسها. وفيم العجب وقد تمكن دوستويفسكي من الغوص في أعماق النفس البشرية، وتوغل في بحورها المتقلبة حتى وصل إلى مناطق مجهولة في هذه النّفس لم يصل لها أحدٌ من الأدباء، فكوّن بذلك مدرسته النّفسية والأدبية الخاصة التي بثها في مجموع نتاجه الأدبي ولاسيما في أهم رواياته كرواية الأبله ورواية المقامر وكذلك في درر إنتاجه الأدبي رواية الجريمة والعقاب وروايته الأخيرة الأخوة كارامازوف. واليوم؛ الحادي عشر من نوفمبر تمر ذكرى ميلاد دوستويفسكي؛ المائة والتاسعة والتسعون، لنتساءل: إلى أي مدى وصل تأثير ذلك الروائي الفيلسوف، فتتجسد الإجابة في أشخاص مبدعين؛ كتّاب وشعراء معاصرين، من أجيال مختلفة، كان لإبداع دوستويفسكي الأثر الأكبر والبصمة العظمى التي شكلت فكرهم، وخاطت تفاصيل إبداعهم. * بداية يقول الكاتب والناقد منير عتيبة: أجزم أن القاريء الذي لم يقرأ ديستويفسكي خسر كثيرا جدا، لكن الكاتب الذي لم يقرأه خسر مكونا لا يعوض في تكوين بنائه الإبداعي. فمع المزايا الإبداعية التي يمكن أن يرددها النقاد بصدق في حق كتابات ديستويفسكي يبقي بالنسبة لي ما هو أهم.. تلك الشجاعة الإنسانية والنفسية والإبداعية التي تميزت بها روح هذا الكاتب الفذ فجعلته لا يهاب الغوص في مناطق شديدة الوعورة والظلام في النفس الإنسانية ويعود منها بكنوز إبداعية مرعبة، بقدر ما هي مدهشة وممتعة بقدر ما هي معلمة ومرشدة. ويضيف "عتيبة" عن تأثير ديستوفيسكي في المبدعين عامة : أعمال ديستويفسكي تعلمنا ككتاب أن نسبح بعيدا عن الشاطئ وأن نذهب إلى غير المألوف ونسير في الطرق الصعبة غير المعبدة إن كنا نريد أن نكتب حقا ما يستحق أن يوصف بأنه إبداع. لذلك نجد تأثير كتابات ديستوفسكي ممتدا حتى الآن في القراء والكتاب ومن يدرسون النفس الإنسانية في ذاتها وفي علاقاتها مع الآخرين. * فيما يتحدث الكاتب والشاعر محمد الحديني، عن تأثره بأدب دوستويفسكي، قائلا: علاقتي بالأدب الروسي قديمة نسبيا ربما تعود إلى نهايات فترة المراهقة بعد تجاوز مرحلة روايات مصرية للجيب بمختلف إصداراتها وسلاسلها، وكانت البداية بتشيكوڤ الذي حببني جدا في الأدب الروسي وبسبب ذلك اقتنيت عدة أعمال لكُتاب آخرين ومنهم دوستُياڤسكي وتولوستوي. ويضيف : ورغم أنني من أصحاب النفس القصير في القراءة والكتابة إلا أن أعمال دوستياڤسكي الروائية المعروفة بطولها ومنها الجريمة والعقاب والأخوة كورامازوف كانت الاستثناء. دوستُياڤسكي هو الفيلسوف والكاتب النبي الذي أوتي الحكمة والعلم بالنفس البشرية بكل تناقضاتها وتداخلاتها وغرابتها ولا محدوديتها. الإنسان عند دوستُياڤسكي هو الكائن الملغز الذي خُلق ليدخل المتاهة أملا في الخروج وفي سعيه لذلك ودون أن يدري يجد نفسه يدخل متاهة أخرى ألا وهي نفسه المضطربة القلقة المصابة بفوضى المشاعر والأفكار والأسئلة التي لا إجابة لها. دوستُياڤسكي هو أبرع من تناول الصراع بين الخير والشر في نفس الإنسان، ازدواجية دكتور چيكل ومستر هايد الأبدية من خلال طرح قضايا وجودية وفلسفية ودينية. ويستطرد: أعمال دوستياڤسكي أشبه بمرايا متعددة الأسطح يضعها أمام القارىء الإنسان الذي يجد نفسه واقفا أمامها عاريا بعد أن فضحته وكشفت ما يعتمر نفسه من رذائل ونقائص وضعف وقلة حيلة. ويختتم " الحديني": وفي ذكرى ميلاد هذا العظيم، لا يسعنا إلا أن نقول إنه يستحق بجدارة ما وصل إليه من شهرة ومكانة أدبية مرموقة مكنته من اعتلاء قمة الكُتاب على مر التاريخ. *أما الكاتب والشاعر محمد علي ، فيقول: كتابات ديستويفسكي في حقيقتها كانت المختبر الأدبي الذي أنتج ثورة فكرية ونفسية تأثر بها العالم أجمع، حتى أنه في رسائله التي كتبها خلال فترات حياته المختلفة، منذ أن كان في الثانية عشرة من العمر وحتى وفاته كان مدهشًا، فلم يكن القديس الذي يبالغ معجبوه في تنزيهه، ولَم يكن متعاليًا، بل كان إنسانًا حكيمًا، عبر عن مواطن ضعفه وأخطائه بشجاعة بالغة، ولهذا تبدو كتاباته وكأنها دائرة معارف متكاملة تختلف عن غيرها من الكتابات . ويضيف محمد علي، كتابات ديستويفسكي بالنسبة لي كانت المختبر الأدبي الذي لعب دورا مهما في وعيي النفسي، وكيفية ترجمة هذا الوعي على الورق، لذا لا أبالغ إن قلت أن كتاباته تبدو وكأنها دائرة معارف متكاملة تختلف عن غيرها من الكتابات. * فيما ترى الكاتبة والقاصة نهلة عبدالسلام: بشكل العام الأدب الروسى كان له نصيب كبير من قراءاتى، ديستوفيسكى تحديدا كنت محظوظة بمناقشة رائعته الأخوة كرامازوف بحضور عدد من الكتاب والقراء المحترفين، وقد صادف التوقيت بدايتى مع الكتابة،كونى أعتمد على عدد كبير من الشخصيات إلى جانب شغل الحوار لمساحة كبيرة مقارنة بالسرد،سبب بعض القلق،لكن ديستوفيسكى عمل في روايته بتكنيك مقارب، ومع فارق حرفية رسم الشخصيات، بأفكارها ومشاعرها، ورغم عددها الكبير لم يحدث أن أيا منها خرجت بشكل باهت، أو كان حذفها غير مؤثر، الكتابة تصبح أكثر حرفية بتراكم القراءات الواعية،فيظهر تأثيرها مع كل عمل جديد، كتصحيح مسار ، وبعيدا عن التقليد،لأنني بالتأكيد ليس هدفى أن أكون نسخة مكررة، ولو من العظيم ديستوفيسكى. لكن هناك شيئا من أسلوبه انتقل لكتابتي وبالتأكيد كان لصالحها.