تحدث الدكتور إبراهيم البيومي، إمام وخطيب مسجد السيدة زينب، قائلاً ابن بطال رحمه الله تعالى: "المدارة من أخلاق المؤمنين، وهى خفض الجناح للناس، ولين الكلمة، وترك الإغلاظ لهم فى القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة، وهى الرفق بالجاهل فى التعليم، وبالفاسق فى النهى عن فعله، وترك الإغلاظ عليه حيث لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل، ولاسيما إذا احتيج إلى تألفه ونحو ذلك " والمداراة مصدر دارى، يقال: داريته مداراة: لاطفته ولاينته، ومداراة الناس: أي ملاينتهم وحسن صحبتهم واحتمالهم؛ لئلا ينفروا عنك . قال المناوي: (المدَاراة: الملاينة والملاطفة) . س : وهل فى القرآن الكريم والسنة النبوية ما يشير إلى هذا الخلق ؟ وتابع البيومي القول، لقد وردت في كتاب الله وفي سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أدلة واضحة تشير إلى هذا الخلق وتدل على جواز المداراة، ومن هذه الأدلة: قول الله -سبحانه وتعالى-: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) [هود : 84]. وأضاف إمام وخطيب مسجد السيدة زينب، أن شعيباً -عليه السلام- أمر قومه بالحق، وعبادة الله وحده، وعدم الإشراك به، ونهاهم عن تطفيف الكيل ونقص الميزان، ثم قال لهم بعد بيان الحق لهم: إني أراكم بخير أي: في معيشتكم ورزقكم، فأخاف أن تسلبوا ما أنتم فيه من الخير بانتهاككم لمحارم الله. وهذا لاشك أنه من باب المداراة والملاطفة وإلا فالقوم في الحقيقة ليسوا بخير من الناحية الدينية الشرعية، فهم مشركون ظلمة، ولكنه -عليه السلام- يقصد أنهم بخير من الناحية الدنيوية المادية، فلماذا يطففون الكيل وينقصونه وهم في سعة من المال وبسطة من الرزق وحالهم خير حال؟. ومن الأدلة الواضحة التي تدل على شرعية المداراة: قوله تعالى لموسى وهارون -عليهما السلام-: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) [طه 43: 44]. إنه طغى وتجبر وتكبر، ولكن مع ذلك كله قولا له قولاً ليناً من باب المداراة وإيصال الحق إليه بالأسلوب الجميل والطريقة الأفضل. قال ابن كثير: (هذه الآية فيها عبرة عظيمة، وهو أن فرعون في غاية العتو والاستكبار، وموسى صفوة الله من خلقه إذ ذاك، ومع هذا أُمر ألا يخاطب فرعون إلا بالملاطفة واللين) وأضاف البيومي،من المداراة: قول سيدنا إبراهيم -عليه السلام-: (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً * يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا * يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا * يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا * قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا ) [مريم 42: 47]. فهذه الملاطفات كلها يا أبتي يا أبتي، ولكنها ملاطفة يأتي بعدها بيان الحق وتوضيحه له، (يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ )، (يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ) وحينما رآه بعد هذا معانداً له، ومصراً على ضلاله وكفره، استمر إبراهيم -عليه السلام- في مداراته فقال له: (سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا ). قال السعدي: (وفي هذا من لطف الخطاب ولينه، ما لا يخفى، فإنه لم يقل: يا أبت أنا عالم، وأنت جاهل. أو: ليس عندك من العلم شيء. وإنما أتى بصيغة تقتضي أنَّ عندي وعندك علمًا، وأنَّ الذي وصل إليَّ لم يصل إليك ولم يأتك، فينبغي لك أن تتبع الحجة وتنقاد لها) وقد ورد فى سنة الحبيب ما يدل على جواز المدارة فى التعامل مع الناس روى البخاري ومسلم في صحيحهما عن عَ