لا أتذكر مرة واحدة التقيت فيها بالكاتب الساخر «جلال عامر» دون ان اجد ابتسامة حيية خجولة ، تعلو وجهه، وصوتا خفيضا حنونا يهمس متسائلا : مش عايزة حاجة؟ لم يكن «جلال عامر» (1952-2012) يخصنى وحدى بهذا التساؤل الحميم، ولانه كان زميلا لى فى حزب التجمع بالاسكندرية، ففى كل زيارة له الى القاهرة يأتى الى مقر الحزب وصحيفته «الاهالى» ويسأل كل من يقابله سواء كان يعرفه معرفة شخصية او لايعرفه: هو انت مش عايز حاجة؟ كان لدى «جلال عامر» احساس غامر بأنه مسئول عن الجميع، وان عليه واجبا تجاه كل فرد منهم، وانه على استعداد فى كل لحظة للتضحية من اجل عون كل من يحتاج اليه، بل هو لا ينتظر منه ان يطلب، بل يسعى بنفسه لحثه على طلب المساعدة، لنكتشف اننا امام انسان تجتمع فى شخصه صفات نادرة، من الشعور العالى بالمسئولية، الى الصدق الطفولى، ومن البساطة والزهد فى كل شىء عدا العلم والثقافة والمعرفة، الى الشجاعة التى امتلك عبرها ادراكا حقيقيا لمهمته ككاتب ينتصر لكل حق، ويكشف بجرأة كل زيف ، ويعرى قسوة الواقع، ويقول قولة حق فى وجه كل حاكم ظالم. ومن وجع الناس البسطاء وهزائمهم، وافراحهم القليلة، بدأ «جلال عامر» كتاباته الساخرة، التى ابتدع فيها اسلوبه الفريد، الذى يحركه عقل مشتعل بالذكاء واليقظة وممتلئ بثقافة واسعة، تجعل الكتابة عنده ليست طريقة معقدة لقول أشياء بسيطة، بل طريقة بسيطة لقول اكثرالاشياء تعقيداً، بالاعتماد على اسلوب تيار الوعى، الذى يقوم على فكرة التداعى الحر للافكار دون التزام بالتسلسل المنطقى لها، حيث يستطيع القارئ الذكى ان يجد الصلة فيما بينها، ويستخرج منها الدلالة التى تومئ اليها، فينفضح الواقع المرير، ليس فقط كى نضحك منه، بل كى نواجه قبحه، ونتجاوز خلله، فانضم بذلك الى جيل من الساخرين العظام، عاصر جيلنا من بينه «محمد عفيفى» و«محمود السعدنى» خيث تأخذنا كتابتهم دائما الى حيث لا نتوقع. اخضع «جلال عامر» كل شىء فى كتاباته التى انتشرت فى صحف «القاهرة» و«التجمع» و«الأهالى» و«المصرى اليوم» لسخرية قاسية، تجلب الضحكات من اعماق القلوب، لكنها تنير الطريق لحقائق مغايرة، ولم تكن السخرية عنده مجانية، لكنها السخرية التى يسميها «طه حسين» العضاضة التى تعبر عن نقد حريف، بوسعه ان يغنى السياق بضربة قلم واحدة. وهذا الأسبوع قضيت ليلة مبهجة، فى قراءة كتاب جلال عامر «قصر الكلام» الذى اصدرته دار الشروق مؤخراً، فوجدته مرجعا لحياتنا المعاصرة، نستطيع ان نعود اليه دوما عندما يساورنا اليأس ، وتملؤنا المخاوف والشكوك حول مستقبل بلادنا. ففى مصر يقول جلال عامر، يراقب الوزير ويحاصر ويموت لكن فى الشطرنج، فالذى يعينه الرئيس لايحاكمه القاضى، اما الرئيس فانه يزور قرية فقيرة، ويتباسط مع الفلاحين، ويقول لهم فوازير:ايه قد الكف ويقتل مية والف؟، فيرد الأهالى العبارة، وايه جاى من بيعيد بالطبل والزغاريد؟ فيردون «الأمن المركزى»! ويسخر جلال عامر من محللى تليفزيون الحكومة، فقد سمعنا على شاشته من يقول ان الضباط قاموا بالثورة فى يوليو، ليقبضوا العلاوة..فالتليفزيون يستضيف محاميا لعلاج الصدفية، وطبيب اسنان لشرح قضايا الخلع، وخبير بترول للتعليق على مباريات كرة القدم! ويسخر جلال عامر من ادمان الحكومات المتعاقبة لتزوير الانتخابات، فيقول ان قلت ماتخافش مادمت تقول فى السر بأننا كنا نزرع سيناء بالمقاومة، فاصبحنا نزرعها بالحشيش، ونبحث عن الاصوات الجديدة فى لجان الانتخابات ، ففى مصر يموت الميت، ونصوت عليه، ومع اول انتخابات، يعود هو ليصوت بنفسه، فصوت الميت ليس عورة. ويكشف جلال عامر الدور الذى لعبه الحزب الوطنى فى بروز الاخوان، فيقول ان المصرى لم يزرع فى حديقته لا الحزب الوطنى ولا الاخوان، حتى يصير رهين المحبسين، ويتحول برلمانه الى لومانجى بنى له بيت ، اخوانجى سكن له فيه، يتبادلون الشتائم داخله، ويتبادلون المصالح خارجه، فمليونيرات مصر نصفهم وطنى، ونصفهم اخوان.. فالرأس رأس حزب، والجسم جسم جماعة محظورة، اذا اشتكت لجنة السياسات، تداعى لها مكتب الارشاد بالسهر والحمى، ويحرص الحزب الوطنى على حظر الجماعة، تطبيقا لنظرية احمد عدوية، الذى حظروه من الاذاعة فذاع وانتشر! ويسأل جلال عامر حكام مصر لقد صالحتم اسرائيل فمتى تصالحون مصر، ويتساءل هل ستنقلب الدنيا اذا اصبح «ابراهيم عيسى» رئيسا لتحرير الاهرام ، و«عمرو اديب» رئيسا للقناة الاولى، «وبلال فضل» وزيرا للثقافة، وانا مديرا لمصلحة السجون. وفى نبوءة مبكرة (5/2/2011) يقول: رأيت الحصان داحس، والحصان الغبراء،لكن ليس فوقهما فرسان، بل بلطجية، وبعد موقعة الجمل فى ميدان التحرير، رفعوا الدستور على اسنة الرماح، والله اعلم بالنوايا، لذلك انصح الشباب بسرعة تكوين حزب التحرير ليتحاور باسمه، حتى لا يتفرق دمه بين الاحصنة القديمة. ويقول: استمرارا لظاهرة التدين الشكلى التى تنتشر هذه الايام، اصبح معظم سائقى التاكسى يشغلون القرآن، ومع ذلك لا يشغلون العداد. ويبدى دهشته لاننا الشعب الوحيد فى العالم الذى يبكى قبل ورقة الفيزياء، وفى اثناء ورقة الرياضيات، وبعد ورقة الانجليزى، فما هو مستقبل شعب يبذل الدم فى حوادث المرور، والعرق فى الملاعب، والدموع فى الامتحانات. ويتساءل وهو يجيب: هل ما يحدث فى مصر الآن هو صراع ارادات أم صراع على الإيرادات؟ ام هو صراع بين اصحاب الثورة واصحاب الثروة الذين تركوا الجبل فى اثناء المعركة، ونزلوا لجمع الغنائم؟ ويقول نريد رئيسا لا يرفعون عنه الستار كأنه تمثال فرعونى..بل حاكما يحكم ويحاكم من احطأ ويحاكم اذا اخطأ، ونريد عقدا اجتماعيا جديدا نمارس فيه السياسية فى الجامعات وليس فى الجوامع، وفى المدارس وليس فى الكنائس، واشار الى الزمن الحاضر فقال لقد مضى زمن تسلق الجبال، وجاء زمن الرقص على الحبال، وانتقد مجتمع يسد الشوارع بسبب الصلاة، ويملأ السجون بسبب السرقة، ويهجر الطب الى التعشيب، والكيمياء الى السحر، والفلك الى التنجيم، مجتمع مزق صورة ابن مبارك الفاسد، ليرفع صورة ابن لادن القاتل، مجتمع لايهمه الجائع إلا إذا كان ناخباً، ولا يهمه العارى إلا إسذا كانت امرأة، وبعد ان كان الاختيار فى النظام السابق ان تأكل عيش وحلاوة، اصبح الاختيار فى النظام الحالى ان تنفجر من الغيظ او تنفجر فى قنبلة، بعد ان اصبحت الذراع السياسية للاخوان داخل البرلمان تدير المناقشات، والذراع العسكرية للاخوان خارج البرلمان تفض المظاهرات! يعرف جلال عامر نفسه فيقول :عابر سبيل ابن الحارة المصرية، ليس لى صاحب، لذلك كما ظهرت فجأة سوف اختفى فجأة ، فحاول تفتكرنى، وقد فعل جلال عامر ما بشر به بالضبط، وكالشهاب المضىء ظهر واختفى فجأة، لكن حكمته العميقة، وسخريته البليغة، تبقى حية فى النفوس، ويبقى اثرها محفورا بعمق فى تاريخ الصحافة المصرية.