المفكر الإسلامى والداعية الدكتور محمد داود، أستاذ اللغويات والدراسات الإسلامية، بجامعة قناة السويس والخبير بمجمع اللغة العربية ورئيس معهد القرآن الكريم العالمى بالقاهرة يرى أن الأمة الإسلامية تعانى من عدة أزمات، العامل الأساسى فيها هو غياب العلم وهو ما أحدث فجوة بين العالم الغربى ونظيره العربى والإسلامى، وأن الأمة الإسلامية لن تخرج من كبوتها إلا بالتصحيح العلمى والنهضة العلمية، مشيراً إلى أن القرآن الكريم أعظم رسالة تنويرية فى تاريخ البشرية، ولهذا لاقى ما لاقاه من هجوم كثيف من منكريه، كما أكد «داود» أن آيات القرآن الكريم جاءت لتدعم المشترك الإنسانى العام، من خلال إحياء المنافسة واستباق الخيرات وإحياء التعارف والتواصل بين الثقافات المتنوعة بديلاً عن الصدام، وإحياء التعاون الإيجابى ونبذ التعاون السلبي؛ «الوفد» التقت الداعية الكبير، فكان هذا الحوار: * بداية الأمة الإسلامية تعانى العديد من الأزمات، فكيف ترى المخرج من أزماتها المتلاحقة وما السبب فى رأيكم؟ - ما من شك أن الأزمات التى تعانيها الأمة إنما العامل الأساسى فيها هو غياب العلم، فحين يكون العلم فى أزمة فالأمة فى أزمة، لأن الفارق بيننا وبين الغرب خطير جداً، اليوم إسرائيل تقود العالم فى الأمن السيبرانى والأمن السيبرانى فوق الأمن المعلوماتى وتحصل على 20% من حجم الاستثمار العالمى فى الأمن السيبرانى بالرغم من أن عدد سكانها 1% من سكان العالم وهذا أمر رهيب جداً وبالتالى فهى متحكمة ومتمكنة و متطورة جداً وتحتل المراتب الأولى أو الأربعة فى النانو تكنولوجى على مستوى العالم وهكذا فى صناعة التقنية العلمية الحديثة ونحو ذلك، فالفارق اليوم بيننا وبين الدول المتقدمة فارق علمى بالأساس، فنحن عندنا الثروات، لكنّ الآخرين يأتون فيأخذونها لمصالحهم ولا يعود إلينا منها إلا الفتات لغياب العلم عندنا، وهذا أمر مؤسف فأمة اقرأ التى نزلت عليها أول آية اقرأ وجعل القراءة شاملة لم يحدد ماذا يقرأ حتى تكون القراءة شاملة لكل ما يستحدث من العلوم النافعة عبر الزمان بعد الزمان، والقرآن أكد أن العلم سبب الرفعة والتمكين فما وعد الله جهولاً برفعة لكنه وعد أهل العلم قال تعالى : «يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات» ونحن جزء من هذا الكوكب الأرضى ونحن أخطر على أنفسنا من كل الخصوم والأعداء وليس لنا موقع على الخريطة العالمية وما زلنا نتعثر فى جدل عقيم فى التحديث والتطوير للسياسات التعليمية فى البلاد العربية والإسلامية، فالأمة الإسلامية لن تخرج من كبوتها إلا بالتصحيح العلمى والنهضة العلمية وأن تعود المدارس والجامعات إلى التعليم الحقيقى وتعود إلى البحث والاكتشاف، فالقرآن الكريم نادى فى الأمة قائلاً: «قل سيروا فى الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق»، وهذه الآفاق العظيمة نحن لسنا فيها بشىء إنما همومنا تنحصر فى الصراعات بين السياسات والحكومات وأيضا هموم الشعوب وما لم تنظر إلى هذا الجانب لن تقوم لنا قائمة إلا بالعلم، الأمر الثانى وهو ما نحن فيه من تفرق فأى خلاف على أضيق مستوى داخل الوطن أو بين الدول أو داخل الأمة هو قولاً واحداً عند كل العقلاء والسياسيين والنبهاء يصب فى مصلحة الأعداء أو إسرائيل كفانا فرقة فنحن نضع أيدينا ونلوذ بالخصوم والأعداء، والقرآن الكريم هو الذى نبهنا إلى الضعف والهوان قال تعالى : «ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم»، والقرآن قال أيضاً : «واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا» و«كونوا عباد الله إخواناً» وما من شك أن العقلاء فى أوروبا رأوا فى الاتحاد الأوروبى أنه يمكن أن يواجه اقتصادياً الدولار الأمريكى وقد واجهتهم مشكلة الترجمة، فهناك أكثر من 24 لغة فى الاتحاد الأوروبى ويكلفهم ذلك ترجمة كثيرة لكنهم تغلبوا على هذا ونحن لدينا لغة واحدة وعلى الرغم من ذلك نحن لا نعرف الطريق ولطالما ينبهنا القرآن فى خطابه الجماعى فما الذى يفرقنا فالتمزق والتشتت والتفرق هو أخطر داء يلعب عليه الأعداء ليوهنوا الأمة، المسألة الثالثة وهى إبراز الهوية العربية والإسلامية وعدم الذوبان فى الآخر والهوية هى الخصائص التى تميز شخصاً أو مجتمعاً أو دولة أو أمة عن غيرها، والعناصر الأساسية للهوية هى اللغة والثقافة وهى هنا بالمعنى العام الذى يشمل المعارف والأمور المعنوية ويشمل الأمور المادية وسبل الحياة والتقاليد والدين ونحو ذلك؛ فعدوان أهل العربية عليها أخطر من عدوان الآخرين عليها. * من حين لآخر يشتد الهجوم على الإسلام والرهان على اندثاره وتصفيته فما ردكم على هذا الطرح؟ - المراهنة على اندثار الإسلام وتصفيته مراهنة خاسرة منذ البدايات الأولى مع نزول آيات القرآن والتكليف بالجهر بالدعوة «فاصدع بما تؤمر»(الحجر: 94)، وقيام قيامة المشركين بمكة فى وجه هذا الدين الجديد، فقد قاموا بالتشكيك فى القرآن وزعموا أنه من عند محمد اقتبسه من آخرين أعانوه عليه قال تعالى: «وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلماً وزوراً وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهى تملى عليه بكرة وأصيلاً» (الفرقان: 4-5)، وهو إعادة إنتاج لما فى الكتب السابقة «التوراة والانجيل» ووصفهم النبى بأنه شاعر ومجنون والتهوين من شأن إعجاز القرآن بأنهم لو شاءوا لجاءوا بمثله، كما قاموا بالتشويش عليه «وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون» (فصلت : 26). ويمضى الإسلام فى مواجهة أخطر التحديات ليواجه العدوان الصليبى على الشرق الإسلامى فى العصور الوسطى ثم اكتساح المغول للعالم الإسلامى وسقوط بغداد وتتكرر المواجهات اللاهبة ضد الإسلام والمسلمين، الاستعمار الحديث فى القرنين الماضيين وظن أعداؤه أنهم قبضوا عليه لكنه انتفض من تحت الرماد كما يقول أحد المستشرقين وهبت حركات المقاومة والتحرر فاضطر المستعمر للخروج لكن استقل العالم الاسلامى على خطة ماكرة وحدود مصطنعة ودول قطرية تدور فى فلك الغرب سياسياً واقتصادياً إلا من رحم ربى هذا واقع الحال الآن. وعلى الرغم من المعارك الطاحنة طوال تاريخ الإسلام، إلا أن الإسلام حتى اللحظة الحاضرة عصى بقوته الربانية على كل المحاولات الماكرة والمراهنات الخاسرة ضد الإسلام، قد يهزم المسلمون إذا تخلوا عن إسلامهم وعن قرآن ربهم وتضعف أمة الإسلام لضعف صلتها بالقرآن لكنها أبدا لا تموت ولا تندثر وسرعان ما تعود لها القوة والحياة لأن هذا الدين وهذا القرآن تكفل الله بحفظه «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون» (الحجر: 9) * نعيش حرباً على اللغة العربية وانهياراً ظاهرياً فى الثقافة فما أسباب ذلك فى رأيك وبماذا تنصح الأجيال القادمة؟ - لا يخفى على أحد، أن المدارس الأجنبية التى تدرس باللغة غير الوطنية فى العالم فى أمريكا وأوروبا والصين واليابان تدرس فى المراحل الأولى من التعليم حتى الشهادة الجامعية باللغة الوطنية ونحن نتنكر للغة، لأن اللغة لا تنعزل عن شحنتها الثقافية، فحين تدرس باللغة الفرنسية أو الإنجليزية يحدث تغريب دون أن نقصد، من الممكن أن يتعلم ألف لغة لكن لابد ألا تدرس العلوم إلا باللغة الوطنية فبدعة المدارس الأجنبية التى تدرس بغير اللغة الوطنية هى لون من الاحتلال الفكرى والثقافى، فنحن نضعف هويتنا بأيدينا وأفعالنا وسلوكنا، نحن نتنكر لهويتنا ولغتنا؛ فالتنكر للغة العربية تنكر خطير جدا واللغة هى الهوية والأصالة والأنا والتراث ولذلك الضعف فى اللغة العربية جر مشكلة أخرى وهى قراءة القرآن دون فهم، فبدأت تظهر أسئلة مضحكة جدا لكنها خطيرة فى الوقت ذاته فمن لا يدرك قواعد اللغة العربية وفهم المعانى ما من شك أنه سيصطدم بأمور كثيرة فى القرآن لا يستطيع تفسيرها وفى هذا إضعاف للدين، فإضعاف اللغة إضعاف للدين وإضعاف للصلة بالقرآن الكريم، فاللغة أبعد من كلمة تنطق، فاللغة أصالة ودين وثقافة وتاريخ، لأن اللغة هى الوعاء للدين والثقافة وما من شك أن ثقافة المغلوب دائماً تتهاوى ويتطلع الشباب الجديد إلى ثقافة الغالب حضاريا فيقلدهم فى كل شىء ونحن فى هزائم حضارية ما من شك ونحن نريد من المثقفين والمفكرين ورجال الدين والتعليم تعزيز الأنا العربية والإسلامية دعما لهويتنا؛ فنحن نحتاج مشروعا وطنيا فكريا للأمة وهذا لابد أن يستنهض همة الجميع كل فى اختصاصه إنقاذا لهويتنا. * المفكرون والفلاسفة يتحدثون دائما عن التنوير وأنه ضرورة حضارية وينادون بأهمية أعمال العقل فى التفكير فما موقف القرآن من التنوير وإعمال العقل والحرية؟ - إن المتدبر لآيات الله يرى أن القرآن الكريم أعظم رسالة تنويرية فى تاريخ البشرية والآيات كثيرة قال تعالى : «الله نور السماوات والأرض»(النور: 35) فقد نوّر الله السموات والأرض بالنور الحسى بالشمس والقمر والنجوم، قال تعالى: «جعل الشمس ضياء والقمر نوراً» (يونس: 5)، «وجعل الشمس سراجا» (نوح: 16) ونورهما بالنور المعنوى فقد أرسل الرسل وأنزل الكتاب وجعل للإنسان عقلاً، قال تعالى : «الله ولى الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون» (البقرة: 257) فهدى القرآن الكريم منقذ للإنسان وقول الله تعالى : «يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً» ( النساء : 174) فهدى القرآن يقوم على الحجة والإقناع وهو نور كاشف مبين يؤكد ذلك قول الله تعالى : «قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين»( المائدة : 15) وقوله تعالى : «يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم «(المائدة : 16) وهكذا تشير الآيات إلى أن القرآن الكريم رسالة تنويرية، كما أن القرآن الكريم أعظم دعوة لإيقاظ العقل والتفكير، فلقد اشتمل القرآن على ألف ومائتين وستين سؤالاً للعقل البشرى، ومعنى هذا أن القرآن خطاب للعقل ومعنى هذا أن القرآن اعتمد الدليل العقلى، بل إن القرآن الكريم معجزة متفردة ليست كمعجزات الأنبياء السابقين، لقد كانت معجزات الأنبياء قبل النبى، محمد صلى الله عليه وسلم، معجزات حسية والقرآن الكريم معجزة حسية ليس عصا موسى ولا ناقة صالح ولا نار إبراهيم إنه معجزة متفردة غير حسية إنه معجزة عقلية تخاطب العقل، لقد جاء القرآن يحث على العقل وعلى التفكير ووردت كلمات التفكير والفكر فى آياته ووردت مشتقات مادة (ف ك ر) ثمانى عشرة مرة. وكلها بمعنى التفكير والتدبر. * من يستعرض تاريخ القرآن عبر الزمان والمكان يجد أنه كلما اشتد الهجوم عليه من معارضيه ومنكريه ازداد تألقاً وقوة، فلماذا كل هذا الهجوم على القرآن؟ - هناك دوافع كثيرة للهجوم على القرآن يمكن إجمالها فى دافعين: أولهما دافع نفسى وهو تزييف الحقائق وتحريفها تعبيراً عن الإخفاق والعجز عن مواجهتها فالعجز عن مواجهة الخصم يتحول فى الأعم الأغلب إلى الافتراء عليه، كما أن التلبس بالصفات السلبية دافع لوصف الآخرين بها درءاً للاتهام وهو ما يعرف عند علماء النفس بالإسقاط، حيث إن الإسقاط حيلة من الحيل الدفاعية التى يلجأ إليها الفرد للتخلص من تأثير التوتر الناشئ فى داخله ذلك أن الغلبة إنما تكون للفكر الأقوى، والإسلام كما يشهد الواقع عقيدة وأخلاقاً هو الأقوى فقوته ليست من قوة أتباعه كما فى العقائد الأخرى ولكن قوته ذاتية تتأتى من داخله لأنه الحق لأنه الخير لأنه السلام والأمن، لأنه الصلة الحقيقية التى لم تتعرض لزيف أو تحريف أو تشويه، ومن هنا كان إخفاق الغرب على المستوى الفكرى المعرفى على الرغم من تفوقه سياسياً واقتصادياً وعسكرياً دافعاً إلى الخروج عن العقلانية والحوار المنصف واللجوء إلى القوة وإلى التشويه والإفساد ظلماً وعدواناً، والدافع الثانى هو إخفاق الغرب فى مواجهة الإسلام فكريا على الرغم من هزيمة المسلمين سياسيا واقتصاديا وعسكريا فى الوقت المعاصر فالافتراء على القرآن والطعن فيه فى القرون الوسطى جاء نتيجة للإخفاق فى مواجهة الإسلام عقائدياً، ولا يزال الغرب حتى الآن يمارس فكرة إقصاء ونبذ الآخر بمواصلة الطعن فى القرآن وفى نبوة النبى محمد صلى الله عليه وسلم فى الوقت نفسه ينعت الإسلام بأنه هو الذى يمارس إقصاء الآخر؛ لكن الإسلام احتوى الآخر واعترف به بل لا يتم الإيمان للمسلم إلا بالإيمان بجميع الرسل والأنبياء والكتب السماوية التى أنزلها الله على أنبيائه صلوات الله عليهم أجمعين وهناك مواقف لا تحصى لتأكيد أن علاقة الإسلام بالآخر تقوم على السماحة والعدالة واحترام حقوقه. * أخيراً.. المتدبر لآيات القرآن يجد أنها تدعيم للمشترك الإنسانى.. نريد بياناً لذلك أكثر توضيحاً منكم باعتباركم أحد خبراء اللغة والدعوة معاً؟ - نعم، آيات القرآن جاءت لتدعم المشترك الإنسانى ويظهر ذلك جلياً فى المعانى القرآنية إحياء المشترك الإنسانى العام من خلال النداء القرآنى : «يا أيها الناس»، «يا بنى آدم» ( الأعراف: 26). وإحياء المنافسة واستباق الخيرات بديلاً عن الصراع قال تعالى : «ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعاً إن الله على كل شىء قدير»(148). وإحياء التعارف والتواصل بين الثقافات المتنوعة بديلاً عن الصدام قال تعالى : «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير» (الحجرات : 13) وإحياء قبول الآخر وجعله من نسيج الأمة له ما لنا وعليه ما علينا قال تعالى: «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين»( الممتحنة: 8). وإحياء التعاون الإيجابى ونبذ التعاون السلبى قال تعالى: «وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب» (المائدة : 2). وإحياء التنافس بين التنوع الدينى والثقافى بدلاً من الصدام والعدوان قال تعالى : «لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم تختلفون» (المائدة: 48).