«محروس»: ورثت صناعته عن والدى.. وتجارته أصبحت راكدة عادة ما يتغير الزمان على مختلف بقاع الأرض، فالزمن متغير فيما المكان ثابت، هذا فيما يبدو شكلًا، غير أن عامل تغير الزمان، له أثر تغير شكل المكان، بما يدخله عليه من مدخلات تقلب وتغير عادات وتقاليد الناس، فيبدو المكان فى ثوب جديد من أثر المتغيرات، وما يلبث الجديد فيصير قديمًا، وتتوالى دوران ساقية التقلُّب وتسير القافلة، ومن بين سمات الزمان التى تعد من خصوصيته التى تميزه عن غيره من الأزمان هو المتعلق بالزى ومظهر الملبس، فكل مظهر ملبس بعده الزمنى وإطاره المكانى، ومن بين سمات عصر ما يعرف بالثورة العربية، برز الطربوش كغطاء للرأس انحصر لبسه فى بلاده، حيث احتل ردحًا من الزمان لا بأس به ظل معها يتوج الرؤوس. يا طربوش مقامك كبير، وفى جمالك مفيش مثيل، هيبتك مالية المكان، وصاحبك عليه العين.. فى شارع الحسين ما زال الطربوش موجوداً لدى القليل من الباعة ولكن لا يباع ولا يشترى، يحوى بقايا تراث يرصد تاريخ مصر من خلال تلك الصناعة التى ازدهرت فى عصور سابقة وكانت ملمحًا رئيسيًا للزى المصرى للرجال، سواء من رجال الدين أو أصحاب الزى الأفرنجى، إلا إنه الآن أصبح معلقًا ومحفوظًا فى سياج التجار أمام محلاتهم، حتى أوشك على الاندثار فهو من عبق التاريخ الممزوج بغبار الزمن. بين تكدس الأروقة بالمارة والزبائن من كل الجنسيات والأطياف، وأصوات الباعة التى تتعالى معلنة عن تخفيضات جديدة فى أسعار السلع، فى منطقة الغورية، سيلفت نظرك رواق يخلو من المارة تقريبا، إلا من وجود عدة محلات متراصة بجانب بعضها، وبداخل أحد المحلات تفوح رائحة التاريخ القديم الممزوجة بغبار الزمن الذى طال الكثير من البضاعة المعروضة لقلة الطلب عليها. يجلس آخر صناع الطرابيش فى مصر عاكفًا على تشطيب قطعة لغطاء الرأس، «حنفى محروس» صاحب محل لبيع الطرابيش، يقول أقوم بالاتجار فى الطربوش منذ أكثر من ثلاثين سنة ولكن المعدل السنوى لبيعه قل بكثير، فأصبحت تجارته راكدة، وأصبح هذا النوع من المتعلقات المباعة حيز وخانة وجزء على أرفف المحلات، وتم إضافة مشتريات أخرى بأشياء تباع لتواكب هذه الفترة من الزمن. ويتابع: «ورثت حرفة تصنيع الطرابيش عن والدى، وأنا أعمل بها منذ ما يقرب ال30 عاماً منذ أن كنت فى العاشرة من عمرى، وسعره الآن يبدأ من 40 جنيهاً ويصل إلى 500 جنيه، خصوصاً إذا كانت القماشة المستخدمة غالية مثل الجوخ، فهو يعتبر من التراث ويباع على أنه كذلك بالفعل فأحياناً يباع للسائحين الأجانب كونه من التراث المصرى والعربى، وأحيانًا أخرى يأتى عمداء من الريف المصرى ومن الصعيد وهو كبار بلادهم وشيوخها ويقومون بشرائه باعتباره من المتعلقات الشخصية الأساسية، مضيفاً أنه طالما وجد الأزهر الشريف ستستمر صناعة الطرابيش لأن علماء الأزهر يحتفظون بوضعه على رؤوسهم تميزًا وتفاخرًا بانتمائهم للأزهر الشريف. «فلكلور مصرى».. تغيرت حروفها فى بادئ الأمر، من «سربوش أو سلابوش» ل«شربوش»، حتى أصبحت «طربوش». موضة تقليدية تاريخية، جار عليها الزمن، كللت الرؤوس لأكثر من مئة عام، وانتشرت فى إحدى الفترات كالنار فى الهشيم، فى العالم العربى، كانت تجسد وجهاً مضمونياً متشابكاً، من منظومة قيم وعادات وأعراف للمجتمعات العربية والإسلامية، فبعد العمامة ثمَّ العقال، جاء الطربوش، كأنَّه فاصل بين تاريخين أو زمنين، حتى تلاشى حضوره لاحقا، فبقيت الرؤوس فارغة. ويظهر أن الفكرة فى ارتداء الطربوش كانت سياسية أكثر منها اجتماعية، فإن سلاطين تركيا كانوا قد بدأوا يلبسون الطربوش، وكانت مصر فى ذلك العصر ولاية تركية، فكان الولاة يتشبهون بالسلطان فى لباسه، ولذلك ظل الطربوش المصرى العثمانى فى تطوراته. هناك من يقول إن منبته وجذوره بلاد المغرب العربى، ومن ثم انتقل إلى الإمبراطورية العثمانية فى القرن التاسع عشر الميلادى، وبينما يرى آخرون أن الطربوش أصله نمساوى، ونجد مجموعة أخرى تؤكد أنه يعود إلى العثمانيين أنفسهم كونهم أول من استخدمه، وهناك من المؤرخين أيضًا من يرى أنه موروث جاء من تركيا وبلاد البلقان أو أنه يونانى الأصل أتى به الأتراك، أما لفظة طرابيشى فهو اسم منسوب إلى طرابيش بائع الطرابيش، ولقد اقترن الطربوش كغطاء لرأس الرجل بالوقار، وانتشر اعتماره كعلامة للتميز وعلو المكانة الاجتماعية فى العصر العثمانى، وأصبح الزى الرسمى لهم كما أصبح رمزاً للوجاهة والأناقة والتمدن والتحديث، باعتباره رمزًا لمواجهة قبعة الأوروبيين. كان الظهور الأول للطربوش فى العالم العربى، ضمن مدينة دمشق أيام «إبراهيم باشا»، الابن الأكبر لمحمد على باشا والى مصر، والذى حكم سورية مدَّة تقارب العشر سنوات 1831-1841، فعمم أثناء حكمه الشام، لباس الطربوش بدل العمامة. وفى مصر اشتهر بلبسه أفراد العائلات المصرية العريقة، كعائلة سعد زغلول، وحبيب باشا السعد، وفكرى أباظة، إلى جانب عميد الأدب العربى طه حسين، ولم يكن مسموحًا لأى موظَّف فى دوائر ومؤسَّسات الدولة أن يدخل على رئيسه دون ارتداء الطربوش، هذا طبعاً علاوة على إلزامية لباسه من قبل طلبة المدارس، حيث يطرد من لا يلبسه، وبقى ذلك إلى أن جاءت ثورة يوليو 1952، إذ اعتبر الرئيس الراحل جمال عبدالناصر أن الطربوش رمز للرجعية والإقطاع، فاستغنى عنه.