قد يعتقد البعض، عن خطأ، أن مصطلح “المجال الحيوي”يرتبط تاريخياً بالنظام النازي الألماني وفترة الصراع الأوروبي الساخن على النفوذ داخل القارة الأوروبية وخارجها، في سنوات ما بعد الحرب العالمية الأولى، أي ابتداء من 1918 والتسويات المجحفة التي حدثت في أعقابها لمصلحة أطراف على حساب مصالح أطراف أخرى، وحتى تفجرّ الحرب العالمية الثانية. كان الزعيم النازي الألماني أدولف هتلر أبرز من استخدم هذا المصطلح في مسعاه إلى فرض السيطرة والهيمنة الألمانية على أوسع نطاق ممكن تحت حجة أنها تعد “مجالاً حيوياً”للأمن والمصالح الألمانية، ما يبرر لألمانيا أن تفعل ما تشاء وتتدخل كيفما تشاء في تلك المنطقة التي تدخل ضمن دائرة تلك المجالات الحيوية . ما يهمنا نحن العرب من هذا كله، هو أين نحن من تداعيات عودة هذه السياسة مجدداً في الاستراتيجيات الوطنية لقوى إقليمية بعضها على عداء معنا، وبعضها تحول إلى منافس ومناوئ وقد يتحوّل بأخطائه إلى عدو؟ السؤال مهم في ظل ظاهرتين متزامنتين معاً، أولاهما إعادة تفعيل “إسرائيل”عقيدتها الاستراتيجية المرتبطة بكل من سياسة “المجال الحيوي”وسياسة “الضربات الاستباقية”. وثانيتهما اعتناق إيران هي الأخرى في السنوات الأخيرة، سياسة “المجال الحيوي”كرد فعل لتراجع قدرات حلفائها الإقليميين عن القيام بالأدوار المطلوبة لخدمة المصالح القومية الإيرانية . والمعنى الأساس لسياسة “المجال الحيوي”يتركز في العمل باتجاهين، الأول يغلب على التوجه “الإسرائيلي«، وهو مرتبط بشكل مباشر بنظرية الأمن “الإسرائيلي”المرتبطة هي الأخرى بخصوصيات الضعف “الإسرائيلي«، وأبرزها إدراك الكيان لنفسه باعتباره (كياناً دخيلاً) مرفوضاً وغير مرغوب فيه، فضلاً عن كونه كياناً عدوانياً استعمارياً استيطانياً اقتلع شعباً من أرضه وأقام مكانه، ومن ثَم بات يشعر بعمق التهديد الوجودي المتصل وغير المنقطع، إضافة إلى ضيق مساحته الجغرافية ومحدودية عمقه البشري مقارنة بجواره العربي . هذا التوجه “الإسرائيلي”لمفهوم المجال الحيوي يجعله توجهاً عدوانياً أميل إلى الاستباق في ضرب كل مصادر التهديد المؤكدة والمحتملة في المنطقة الجغرافية التي يراها الكيان حيوية لأمنه القومي، وهذه المنطقة سبق أن حددها آرييل شارون رئيس الحكومة الصهيونية الأسبق، بالمساحة الممتدة من باكستان شرقاً وحتى الشواطئ الشرقية للمحيط الأطلسي “المغرب وموريتانيا”غرباً، ومن تركيا شمالاً وحتى منابع النيل جنوباً . في هذه المساحة يحرص “الإسرائيليون”على الحيلولة دون ظهور أي قوة أو أي مصدر للتهديد، أياً كان نوعه، يكون في مقدوره تهديد الأمن “الإسرائيلي«، أو التعرض للوجود “الإسرائيلي«، أو التأثير سلبياً في المشروع الصهيوني، كما يحرص على تجنيد أصدقاء وحلفاء قد يرتقون إلى مستوى العملاء من دول ومؤسسات وأفراد بهدف دعم النفوذ “الإسرائيلي«، والتأثير السلبي في قدرات ومصادر قوة الدول العربية المعادية . أما الاتجاه الثاني لسياسة المجال الحيوي، فتأخذ به إيران وهو اتجاه شديد الارتباط بجوهر ومحتوى المشروع الإقليميالإيراني بركيزتيه: المصالح القومية الإيرانية والتوجه الإسلامي المذهبي، لذلك فإنه يهدف دائماً إلى توسيع مناطق النفوذ واكتساب المكانة لخلق المزيد من الحلفاء، وهو هنا يعتمد سياسة المعونات سواء كانت عسكرية أو اقتصادية أو فنية لتثبيت مرتكزات المشروع الإقليميالإيراني، باعتبار إيران قوة إقليمية كبرى شريكة في صنع القرار الإقليمي . التوجه “الإسرائيلي”عنوانه السيطرة، والتوجه الإيراني عنوانه الخروج من العزلة الضيقة واكتساب المكانة للمشروع الإقليميلإيران . الكارثة أن اعتناق كل من “إسرائيل”وإيران سياسة المجال الحيوي وما ترتب على هذا الاعتناق من دخول البلدين في صراع ساخن، جاء متزامناً مع حالة من العجز والانقسام العربي غير المسبوق على العديد من الملفات، من بينها ملف التورط في علاقة صراعية مع إيران، وملف الانصراف عن أولوية فلسطين قضية مركزية عربية، ما جعل أطرافاً عربية تقع في محظور الاستقطاب في المحور “الإسرائيلي”من دون تدبير منها سواء من خلال انصرافها عن الالتزام بأولوية فلسطين والتخلي عن هدف تحريرها لمصلحة مشروع تسوية وهمي فرّغ القضية الفلسطينية من كل مضامينها، أو من خلال انتهاج سياسة عدائية في العلاقة مع إيران . مصدر الكارثة أن العرب ووطن العرب هما المتنازع عليهما بين الكيان الصهيوني وإيران . فالمجال الحيوي لكل من “إسرائيل”وإيران هو الوطن العربي من مشرقه إلى مغربه ومن شماله (ما يحدث في سوريا) إلى جنوبه (ما حدث مؤخراً في السودان) . الصراع يجري على أرض العرب، والاستقطابات تحدث لدول عربية، وما بين كل من الصراع والاستقطاب، يجري تدمير مرتكزات المشروع النهضوي الحضاري للأمة العربية، وعلى الأخص أهداف الوحدة العربية والاستقلال الوطني والقومي والتنمية المستقلة المستدامة، وعندما تتلاشى هذه الأهداف أو المرتكزات الثلاثة للمشروع النهضوي الحضاري العربي، تتلاشى بالتبعية الأهداف الثلاثة الأخرى: العدل الاجتماعي، والديمقراطية، والتجدّد الحضاري . فالاستقطاب العربي بين إيران و”إسرائيل”أو بين إيران والولايات المتحدة وخلفها الكيان الصهيوني، يفاقم من الأزمات والصراعات على أرض العرب، ويطلق الفتنة الطائفية والعرقية والحرب الأهلية من عقالها، كما أن مثل هذه الاستقطابات والانحيازات لهذا الطرف أو ذاك يفقد الدول العربية استقلالها الوطني ويهدد قرارها واستقلالها وإرادتها القومية، وبين هذا وذاك تذهب القدرات العربية أدراج الرياح، فتتبدد الثروات في صراعات وبرامج تسلح ودفع تكاليف الحماية، وتتعرض المنشآت للخطر . الصراع الدائر على سوريا الآن من أطراف عربية وإقليمية ودولية، نموذج شديد الوضوح للتدمير أولاً، ولتفكيك الرابطة العربية . جيش سوريا ومنشآتها وقدراتها البشرية والاقتصادية وتماسكها الوطني يدمر تدميراً منهجياً في هذا الصراع، ومعه يتحول الكيان الكردي السوري المحتمل إلى واقع لا يمكن الهروب منه كمقدمة محتملة لكيانات انفصالية أخرى، تماماً على نحو ما حدث للعراق، وما حدث وما يحدث للسودان من حرب انفصال الجنوب، وحرب الإعداد لانفصال إقليم دارفور، والأمن الرخو في الشرق السوداني، وأخيراً العدوان “الإسرائيلي”على مصنع “اليرموك للصناعة العسكرية«، وسط حالة صمت عربي مريبة، نموذج آخر لما يحدث على أرض العرب وسط عجز عربي وانقسام عربي غير مسبوق . ثماني طائرات “إسرائيلية”أغارت على مصنع اليرموك للأسلحة ليلة 23 أكتوبر/ تشرين الأول الفائت، وسط توصيف “إسرائيلي”للسودان على لسان عاموس جلعاد مدير الإدارة السياسية بوزارة الحرب الصهيونية، بأنه: “دولة إرهابية خطرة«، وفي حين رفض الاعتراف المباشر بالمسؤولية “الإسرائيلية”عن هذا العدوان، فإنه حرص على أن يتباهى بأن “سلاح الطيران الإسرائيلي الذي يعد واحداً من الأكثر عراقة في العالم، أثبت جدارته مرات عدة في الماضي”واعتبر أن الرئيس السوداني عمر حسن البشير “مجرم حرب«، أما رون بن يشاي المعلق العسكري الأهم في صحيفة “يديعوت أحرونوت”فقد حرص على أن يعقد مشابهة بين الهجوم على مصنع اليرموك العسكري السوداني، والأهداف الاستراتيجية التي قد تستهدفها عملية عسكرية “إسرائيلية”ضد إيران . على الجانب الآخر بادرت إيران إلى إرسال مدمرتين إلى ميناء بورسودان بدعوة من الحكومة السودانية اعتبرها البعض رد فعل إيرانياً على العدوان على مصنع اليرموك، في حين عدّتها الحكومة السودانية “تدعيماً للعلاقات السياسية والتقارب الدبلوماسي بين البلدين، وتمثل دعماً أمنياً في الموضوعات ذات الاهتمام المشترك بين البحريتين الإيرانية والسودانية«، أما الواقع فيقول إن إيران بهذا التحرك تدعم توسيع انتشارها البحري في المياه الدولية، كما يقول إن السودان دخل طرفاً في الحرب “الإسرائيلية”- الإيرانية . اللافت هنا أن أطرافاً عربية تندرت وانتقدت زيارة هاتين المدمرتين إلى ميناء بورسودان في هذا الوقت، وعدّته تطاولاً وتجاوزاً إيرانياً لمصالح عربية، في حين لم تتخذ هذه الأطراف أي إجراء له معنى ضد الكيان الصهيوني وضد تبجّح قادته عندما اعتدى للمرة الثانية على السودان من دون أي رد فعل عربي مؤثر، في وقت غاب فيه كل تعاون، بل كل تنسيق عسكري عربي في بؤر التوتر العربية، سواء في الخليج أو البحر الأحمر والمضايق المرتبطة بهما: هرمز وباب المندب، خصوصاً أن العدوان “الإسرائيلي”على مصنع الصناعات العسكرية السودانية أعاد تأكيد خطورة الفراغ الاستراتيجي العربي: في منطقة شرقي السودان التي باتت تمثل ثغرة جوية استخدمتها “إسرائيل”في أكثر من مرة في ضرب الرادارات المصرية في حرب أكتوبر ،1973 وفي عملية “عنتيبي”وفي عملية تدمير مصنع اليرموك . هذا الفراغ الاستراتيجي خطر لكن ما هو أخطر منه أن الوطن العربي تحول إلى ساحة صراع “إسرائيلي”- إيراني، وأن هذا الصراع أخذ يستقطب أطرافاً عربية، ومع هذا أو ذاك أضحت فرص العرب في بناء كيانهم القومي واستعادة وحدتهم تتآكل يوماً بعد يوم . نقلا عن صحيفة الخليج