«الكاريزما» حليم تلفح بها وأصبحت رداءه الأبدى فى عالم الغناء وسر خلطته الخاصة التى لا يعرف أحد تفاصيلها، كان قاب قوسين أو أدنى من السعادة، ولكن ثمة شيئاً ما منعه من الوصول إليها.. بركان من الإبداع، وفيض من الإنسانية.. وإعصار من الغضب فى لحظات الإبداع، أظهره «حليم» فى آخر حفلاته عندما تواجد جمهور لم يأت ليستمع، صادق فى فنه، الصدق المتعطر بالإحساس بقيمته الفنية كسب الملايين ولكنه خرج من الحياة بالستر «وزيادة حبتين».. لديه أصدقاء كثيرون، كل واحد فيهم يعتقد أنه الصديق الأوحد، وتلك مقدرة إنسانية لم يكن يعزف عليها باقتدار وعفوية فقط ولكن بعبقرية أيضاً.. أفعاله يغلفها إطار واحد هو الإيثار فى كل شىء إلا فى الإبداع.. فهذا الإنسان الذى يعطيك كل ما يملكه بدون تفكير، يتحول فى لحظة إلى إعصار يعتصر ذاته وكيانه قبل الآخرين إذا فشل فى الحصول على ما يحلم به فى فنه، لذلك لم يكن غريباً على حليم تلك الثورة العارمة التى كادت أن تنهى مستقبله الفنى عندما خرج ليغنى بعد «أم كلثوم» فى حفلة أضواء المدينة، وكان البرنامج أن يغنى عبدالحليم بعد وصلة السيدة أم كلثوم، إلا أنها أطالت فى وصلتها إلى وقت متأخر من الليل فبدأ عبدالحليم يفقد أعصابه فى الكواليس نتيجة تأخر ميعاد صعوده على المسرح وشعر بأن هناك اتفاقاً ضمنياً بين عبدالوهاب وأم كلثوم على تأجيل ظهوره على المسرح؛ فخرج على المسرح وهو فى حالة غليان فقال جملته المشهورة: «إن أم كلثوم وعبدالوهاب أصرا أن أغنى فى هذا الموعد، وماعرفش إذا كان ده شرف لى ولا مقلب». حليم كريم.. ولكن كان كرمه به قدر كبير من إيثار الآخرين وتأكيد على أن لديه مفهومه الخاص فى الكرم، فالجميع يعلم أنه كان يعشق إقامة الولائم للأصدقاء رغم أنه محروم من الكثير من أنواع الطعام. وكل سفرياته للعلاج كان يعقبها عودة بشنط محملة بالهدايا، وكان أجمل ما فيها أنه يختار أحدث الأجهزة التى تساعد أصدقاءه فى حياتهم العملية، فالمصور فاروق إبراهيم كان يحصل دائماً على أحدث أنواع الكاميرات. حليم.. «لبسه عفريت» فمع كل أغنية يغنيها حليم تتبدل أحواله، يعيش مع كل حرف بها، حتى أنه تكلف مبالغ طائلة لإجراء مكالمات مع «نزار قبانى» لتغيير بعض كلمات قارئة الفنجان، رفيقة حليم فى أيامه الأخيرة، كان حريصاً على سماعها فى لندن ويصر عليها رغم تشاؤم مجدى العمروسى منها ورفضه أن يسمعها العندليب، وخاصة مقطع «سترجع يوماً يا ولدى مهزوماً مكسور الوجدان». ولم يكن أحد يدرى آنذاك أن هذه القصيدة هى آخر أغنية يقدمها عبدالحليم بعد ربع قرن من الغناء، ويمكن اعتبارها من أفضل أغانيه. ومن المعروف أن حليم أجرى 38 اتصالاً بالشاعر نزار قبانى لإجراء تعديلات على الأغنية، وكان يقابل الموجى من الساعة التاسعة مساء وحتى السابعة صباحاً لسماع لحنها، ومن المعروف أن محمد الموجى قضى سنتين فى تلحين القصيدة. وقد لحن بعض المقاطع أكثر من لحن وبمقامات موسيقية مختلفة لكى يختار عبدالحليم منها، فما كان من عبدالحليم إلا أن اختارها كلها، فمثلاً مقطع «بحياتك يا ولدى امرأة» يغنيه عبدالحليم بلحنين مختلفين، وكذلك بالنسبة لمقطع «ستفتش عنها يا ولدى»، وهذا الأمر نادر الحدوث فى الغناء العربى. وهى من أفضل ما قدم محمد الموجى من ألحان، وقال الموجى: إنه لم يقدم بعد «قارئة الفنجان» أغنية فى مستواها، وتبدأ علاقة عبدالحليم حافظ بقصيدة لنزار قبانى بعد أن قرأها فى إحدى دواوينه، وأعجب بها، فقرر غناءها، لكنه كان معترضاً على بعض الكلمات فى القصيدة، فحاول الاتصال بنزار قبانى الذى كان يتنقل ما بين أكثر من دولة عربية وأوروبية، وبعد محادثات طويلة، اقتنع الشاعر بوجهة نظر عبدالحليم، والأغنية مرت بأزمة كان من الممكن أن تقضى عليها فى مهدها، إذ حدث احتباس فى صوت محمد الموجى، فكانت هناك صعوبة فى نقل اللحن إلى نوتات موسيقية، وعندما انتهى نقل النوتات، كان لا يزال على موعد الحفل 12 يوماً فقط، وكان عبدالحليم يجرى بروفاته عادة فى 45 يوماً، فقرر عبدالحليم إلغاء الحفل، لكنه تراجع بتأييد من صديقه مجدى العمروسى، وبعد أن أقسم أعضاء الفرقة الماسية، وعلى رأسهم قائدها أحمد فؤاد حسن، بأن يعملوا 12 ساعة يومياً على التدريبات. فى عيد شم النسيم فى أبريل 1976 غنى عبدالحليم هذه القصيدة، وبالرغم من أن أغلب الجمهور استقبلها باستحسان، إلا أن فئة منهم كانت تصدر الهتافات والصفير طوال الوقت، وليس فى نهايات المقاطع كما هو معتاد، فقام عبدالحليم بقوله «بس بقه»، كما قام بالتصفير مثلهم، فأدى هذا بالصحف المصرية إلى أن تنتقده بحدة، فحاول عبدالحليم فى أكثر من لقاء توضيح موقفه، ونُقل عن الفنانة سعاد حسنى أن صفوت الشريف هو من دبر هذه الأحداث. حققت القصيدة نجاحاً كبيراً، وتحقق مبيعات متواصلة على مدى أكثر من ثلاثين سنة. أما «رسالة من تحت الماء» الأغنية التى غناها عبدالحليم حافظ أول مرة عام 1973. وتلحين محمد الموجى، هى لقاؤه الأول مع أشعار نزار قبانى، وهى وثيقة الصلح وعودة المياه إلى مجاريها بين الموجى وحليم، فأثناء وجود عبدالحليم حافظ فى المغرب للمشاركة فى الاحتفال السنوى، تقابل عبدالحليم حافظ مع محمد الموجى وأحمد الحفناوى عازف الكمان وأعضاء الفرقة الماسية ومجدى العمروسى ونخبة من الشعراء والكتاب فى أحد الفنادق الكبرى، وتقرر فى هذه المناسبة عقد الصلح بين محمد الموجى وعبدالحليم حافظ، كان أحمد الحفناوى قد استمع إلى قصيدة «رسالة من تحت الماء» للشاعر نزار قبانى واختارها محمد الموجى ليلحنها، وأصر أحمد الحفناوى على حجزها لعبدالحليم حافظ. كان المفروض أن يغنى عبدالحليم حافظ قصيدة «رسالة من تحت الماء» فى حفل شم النسيم بقاعة جمال عبدالناصر بجامعة القاهرة يوم 17 أبريل 1973 ولكن فى إحدى البروفات استمر عبدالحليم فى أداء القصيدة لمدة ساعتين ولذا سقط مغشياً عليه ودخل فى غيبوبة تامة، مما اضطره لدخول المستشفى وتأجل غناؤها لفترات بعيدة حتى غناها مرة أخرى عام 1975 فى جامعة القاهرة. وكان عبدالحليم حافظ يطلب نزار قبانى بالتليفون ويسدد آلاف الجنيهات لأجل تغيير بعض الكلمات. وعندما قرر تقديم مسلسله الإذاعى «أرجوك لا تفهمنى بسرعة» قام بحبس محمود عوض فى شاليه بالإسكندرية لينتهى من كتابة المسلسل. حكايات كثيرة دارت عن علاقته بالأهل والأصدقاء، ولكن حليم كان أهله جزءا من حياته يتنقل بهم من مكان إلى آخر وبيته كان مقسوما إلى نصفين: جزء يخص حياته الصاخبة، والجزء الآخر تقيم فيه عائلته ويسميه «الحلوات». حكايات كثيرة قيلت عن غراميات حليم فى حياته، وأخرى ابتدعت بعد وفاته، ولكن الحقيقة تكمن فى هذا المكان فى البساتين فالحياة الخاصة صندوق أسود يرحل مع صاحبه.. ولكن له قصة خالدة لعب فيها الموت كلمته الأولى والأخيرة فحبيبة حليم «ديدى» تزوجت غيره وماتت بمرض عضال. وفى النهاية جاء الرحيل، ولكنه رحيل لا يعرف الاختفاء والابتعاد ولكن السكن فى أماكن خلود المبدعين الموجودة فى داخل كل إنسان.