مرت بلادنا في تاريخها العريق الممتد على ثلاثة آلاف سنة بأنظمة لا تحصى ولا تعد تداولت على تونس منذ الفينيقيين والرومان والبربر والعرب وفرضتها منزلة هذه البلاد الجغرافية وموقعها على سواحل البحر الأبيض وارتباطها بالجنوب الإفريقي والشمال الأوروبي. وكانت تونس سيدة البحر الأبيض بعاصمتها قرطاج ومنافسة روما بإمبراطوريتها الواسعة إلى أن قيض الله لها إسلامها على أيدي الفاتحين العرب فكانت القيروان منذ سنة 50 هجريا منطلق الفتوحات نحو الأندلس ونحو القارة السمراء. ثم بلغت بلادنا شأنا عظيما من القوة والإشعاع على أيدي دولها المسلمة من القيروان إلى تونس إلى المهدية وتعاقبت عليها أسر حاكمة عديدة ومذاهب دينية وفكرية متباينة وأحيانا متناقضة وقامت بدور تاريخي حاسم في وضع حد للحملات الصليبية التي دامت قرنين حين مات ملك فرنسا لويس التاسع الملقب بالقديس لويس على مرتفعات قرطاج سنة 1270 م ثم أصيبت بلادنا بالخراب الفرنسي الذي احتلنا لأننا فرطنا في الدولة وتمسكنا بالأنظمة وتشتت عصبيتنا الخلدونية ويعرف جيلنا من خلال ما درسوه من كتب التاريخ كيف قاوم شعبنا الخراب واستعاد هويته وحقوقه واستكمل سيادته ومضت علينا في تاريخنا الحديث مراحل من العزة والهوان وفترات من الوعي والغفلة ولحظات من القوة والضعف إلى أن هبت علينا رياح العولمة الاتصالية كما هبت على الأمم جميعا فأيقظت المارد العبقري من رقدة أهل الكهف وأفقنا على مطالب الحرية والهوية والشرعية وهي الفرائض الغائبة على مدى تاريخنا المعاصر لنبلغ اليوم سنة 2012 حالة شعب يؤسس دولة بالمعنى الخلدوني للكلمة أي يرتفع المواطن عن مصالحه الشخصية وانتمائه الضيق ليشكل مع غيره من المواطنين دولة الحق والقانون والعدالة والنمو بعيدا عن الفوضى والاحتقان والانتقام، لن يكون لنا مستقبل إلا في كنف دولة لا في تواصل صراع الأنظمة. إن هذه الخواطر راودتني وألحت عليّ حين لاحظت لدى بعض التوانسة وحتى من النخبة خلطا عجيبا بين الدولة والنظام لأن الدولة هي القاعدة الإدارية والقانونية التي تنظم حياة المجتمع وتمنع القوي من أن يظلم الضعيف وتباشر تسيير شؤون الناس اليومية الضرورية في جميع حاجياتهم المادية والمعنوية بأدوات الوزارات والإدارات والدواوين والجيش والشرطة والمصارف والرقابة والأمن وتطبيق القانون أما النظام فهو ما يعبر عنه بالإنجليزي والفرنسي ب(السيستم) أي منظومة علاقات أسرية ومهنية علنية وسرية تفرض خدمة مصالحها بواسطة التلاعب بأجهزة الدولة وتحويل القانون عن أهدافه بغرض مصادرة الدولة للغايات الدنيئة وتمكين المتنفذين من سلب ثروات البلاد وهدر طاقاتها ونهب خيراتها ومثل هذه (السيستمات) هي التي كادت تأذن بخراب الدولة في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا وهي التي تهدد مجتمعاتنا بأزمات أهلية نحن في غنى عنها لنحقق أهداف ثورات شعبية لم يقدها منا أحد ولم يتقدمها بل سرنا وراءها بتواضع وحاول كل منا أن يكون في مستوى قامة شبابها الجسور. إن بقاء الدولة العادلة القوية هو الدرع التي تقي البلاد من الهزات وتجنبها المكاره وتشكل نواة بناء المستقبل المشترك وقد نصح المناضل الكبير نيلسن مانديلا نخب تونس ومصر بعد نجاح ثورتيهما بأن يؤسس الجميع الدولة الجديدة على استمرار الدولة القديمة لا على الأنظمة التي زالت بسبب فساد بعض عناصرها لأن الدولة بعد الثورة لابد أن تؤسس على دولة دائمة منذ عصور مع القطع مع السيستم لا مع الإدارة ولهذا السبب لا أوافق الذين يريدون إقصاء كل من تحملوا مسؤوليات في الدولة في عهود سابقة، وإقصاؤهم بقوة القانون لا بقوة صندوق الانتخاب وهو ظلم لنخبة من المواطنين لم يتهمهم قضاء مستقل ويقرر حزب سياسي أن يحشرهم في سلة واحدة جائرة لتكرار تجربة العراق على أيدي (بريمر) حين دمر الدولة العراقية بحل حزب وشل دولة وتفكيك جيش. إن الدولة الجديدة العادلة لن تؤسس على فراغ وإن الحقد لا يبني دولة بل يعيق حركة التاريخ ويعطل عبقرية شعب تونسي (أو مصري أو ليبي أو يمني أو سوري) نحو الاستقرار والتنمية والتكافل وتجاوز الكراهية إلى الأفق الأبعد والأسعد. والله سبحانه الموفق لما فيه الصلاح والخير. نقلا عن صحيفة الشرق القطرية