الموهبة هى العنصر الحاكم فى تحرير النص وإن خالطها شىء من التجربة الصادقة أنا أكتب عن تجارب مررت بها فى الحرب والسفر والحب.. وحتى الموت بُعدى عن العاصمة لم يفقدنى اللياقة كى أكتب بشكل احترافي رغم مغامراتى فى الكتابة لم أتمكن من المغامرة بالبعد عن مسقط الرأس المرأة الدمياطية منتجة ومتحفظة وتقود عمليات التغيير بيقظة يستغربها العابرون ● بداية؛ لماذا لم تفكر فى مغادرة محافظتك دمياط كل هذه السنوات؟ لن أدعى بطولة من أى نوع بأن أقول إننى انجذبت للحياة فى مدينتى لأننى أحبها، فهو عنصر يعضده عنصران آخران الأول؛ أننى عثرت على كنز الطفولة هنا، وظللت أنهل منه حتى اللحظة دون أن ينضب، وكنت أرى أن مجرد ابتعادى عنه يحول المرئيات لدى إلى مشاهد ضبابية. أما الثاني، فرغم مغامراتى فى الكتابة فلم أتمكن من تحقيق مغامرة مماثلة بالبعد عن مسقط الرأس. كنت ومازلت أعتقد أن الكاتب الأصيل يمكنه الكتابة تحت أى ظروف بغض النظر عن تحولات المكان أو مصائد الزمن. الموهبة هى العنصر الحاكم فى تحرير النص، وقد يخالطها شيء من التجربة الصادقة. وأنا واحد من الكتاب الذين لا يكتبون إلا عن تجارب مررت بها: فى الحرب، والسفر والحب.. وحتى الموت أجد فى القبور والشواهد مداميك لتأسيس نصوص فارقة. ● وما سر الحارة الدمياطية التى جعلتها كنزك؟ الحارة فى دمياط شعبية بامتياز؛ فتنتشر ورش النجارة فى أغلب أزقتها، لأنها فى الأساس تعتمد على حرفة النجارة، هذه الحرفة التى يدور حولها عدة حرف مساعدة مثل القشرجي، والمذهباتي، والاسترجي، والمنجد، وغيرها. وفى كل ورشة من هذه الورش؛ يوجد «معلم» يليه الأسطى الكبير ثم أسطى صغير وعدد من الصبية. ويكون نظام العمل فى هذه الورش؛ إما بالمقطوعية أو بالجمعة وهى النظام الأكثر انتشارًا؛ حيث يتم «التقبيض» مساء كل خميس، ويعتبر يوم الجمعة راحة إجبارية، غالبًا يقضيها «الصنايعية» فى رأس البر خاصة فى الصيف، ويطلق على فترة الراحة بالأعياد «المباركة». ● وكيف كانت طفولة سمير الفيل؟ وإلى أى حد ظهر طيفها فى كتاباته؟ لقد مررت فى طفولتى بعدة مهن، أسهمت فى تكوين شخصيتى، فمثلًا قضيت فترة من طفولتي، أعمل فى محل أحذية، وقد وجدت فى تلك العوالم الذى يشتبك فيها الاجتماعى بالاقتصادى مادة ثرية للسرد، خاصة فيما يخص العلاقة بين الرجل والمرأة، لاسيما فى فترة الستينيات، وهى الفترة التى تشكل فيها وعيي، وقد انعكس ذلك فى مجموعتين قصصيتين لى، رغم أنهما متباعدتان ما يؤكد على تأثير هذه الفترة فى تكوينى، وهما «صندل أحمر» و«حذاء بنفسجى بشرائط ذهبية»، وبالتأكيد فى خضم كل ذلك، لا يمكن استبعاد العنصر الدينى الذى يلون فضاءات القص فى كتاباتى. ● مهن مختلفة؛ تعنى أنك تعاملت مع الشخصية الدمياطية عن قرب، فكيف يرى سمير الفيل المرأة فى دمياط؟ - منتجة ومتحفظة، لكنها تدير علاقتها بالمجتمع بمنتهى الوعي، ولديها القدرة على أن تقود عمليات التغيير البطيئة بدربة ويقظة قد يستغربها الزائر العابر، الأسرة الدمياطية محافظة حتى عهد قريب. ● «رجال وشظايا» و«وميض تلك الجبهة» روايتان لسمير الفيل تنتميان إلى أدب الحرب، هل استقيتهما من تجربتك فى حرب أكتوبر؟ - لقد جُندت فى السنة التالية لنشوب المعارك فى سنة 1974، حيث التحقت بالكتائب المحاربة، خاصة الكتيبتين 18 و16 مشاة، وزاملت من حاربوا واستقيت من العساكر المادة الخام التى وظفتها فى الروايتين. وقد تحدثت فى الروايتين عن الإنسان دون أن أهمل العمليات الحربية، وقد أدهشنى أن حدد محرر وكالة «رويتر» الدكتور جورج جحا تجربتي، بقوله إنه للمرة الأولى فى الأدب العربى نجد الحرب فى ثوب إنساني، كما أننى عالجت فى النصوص القصصية فكرة أن من يحاربون لا يجنون ثمرة انتصارهم، وهى فكرة ظلت تلح عليّ فى مجموعة أنجزتها سنة 2001 بعنوان «كيف يحارب الجندى بلا خوذة»؟ ● هذا يتضح جليًا فى كل نصوصك التى تضج بالتجربة الخاصة، لكن ماذا عن اللحظات التى تتحول فيها التجربة الحية إلى تجربة إبداعية؟ - ربما تستطيعين استشفاف الإجابة عن هذا السؤال إذا عرفتِ أننى قضيت سنتين فى صفوف الجيش ضمن سرية الهاون 82، ولم أنجز مجموعة من واقع الاصطفاف اليومى بالقشلاق وضرب النار فى فايد، وتجهيز الحفر البرميلية فى تبة الشجرة بسيناء، إلا بعد مغادرة صفوف الكتيبة بإحدى وعشرين سنة، حيث كتبت «شمال.. يمين». وفيها كنت أنصت تمامًا لصوت الشهداء الذين سقطوا فى العمليات بمنطقة «سرابيوم والدفرسوار». لقد كتبت ما سمعت عنه، مع إحداث انزياحات جمالية تخص الوصف والبنية الحكائية، ورسم الشخصيات التى استدعيتها، عبر زمالة عساكر شاركتهم أكل «الجراية» و«اليمك» فى أروانات جماعية. ● وكيف تعاملت مع مركزية القاهرة الثقافية؟ وهل كنت تتوقع أن تحقق أكثر إذا ما كنت انتقلت إليها؟ لا أظن أن الشكوى من «غول» المركزية أمر صحيح على إطلاقه، فسواء عشت فى دمياط أو أسوان أو حتى فى أسيوط، لن تنجح العاصمة فى تهميشك إلا إذا كنت تنتظر من العاصمة عطاء مجانيًا. صحيح أنك تتواصل بطابع بريد وبزيارات متباعدة للصحف، لكن من الأمانة الاعتراف أن بُعدى عن العاصمة لم يفقدنى اللياقة كى أكتب بشكل احترافي، وسأذكر هنا واقعتين، الأولى تخص الدكتور عبدالقادر القط رئيس تحرير إبداع الذى ظل ينشر لى منذ بداية صدور المجلة بالتحديد العدد الثانى منها، فبراير 1983 وحتى التقيته فى مطار القاهرة الدولى متجهين لأسوان سنة 1990. كانت المرة الأولى التى قابلته فيها وكان يظننى أكبر سنًا. الواقعة الثانية أنه فى مؤتمر أدباء مصر فى الأقاليم، بدورته الأولى بمحافظة المنيا، فبراير 1984، استمع الدكتور سمير سرحان لقصيدتى «النول» فقال لمن يجاوره: القصيدة عبارة عن سرد متماسك. الأمر الذى حققه عمليًا زميلى المرحوم محمد الشربينى حين حول ديوان «الخيول» إلى عرض مسرحى سنة 1990 تحت عنوان «غنوة للكاكى» والكاكى هنا هو لون زى الجنود. ● الكاتب سمير الفيل؛ كنت قد بدأت تجربة الكتابة عن الكتّاب الذين لم ينالوا حظهم من الشهرة، وإن كانوا يستحقونها، حدثنى عن هذه التجربة؟ بكل تأكيد هناك مواهب أدبية كانت مبشرة ولديها دلائل موهبة، لكنها تعرضت لظلم تاريخى فادح، وقد كتبت عنها مقالات ونُشرت فى الدوريات المتخصصة، وأنا أعتقد أنه من الضرورى رفع الغبن عن تلك المواهب التى ربما صادفها حظ عائر فى الانتشار والتحقق، كتبت عن مغمورين نسبياً، مثل: يوسف القط، حسين البلتاجي، مجدى الجلاد، محمد علوش، من دمياط.. وكتبت عن أدباء معروفين لكن الظرف التاريخى همشهم، منهم: عبدالدايم الشاذلي، إبراهيم غراب، محمد الراوي، قاسم مسعد عليوة، صالح الصياد، مصطفى الأسمر، وغيرهم. كانت كتاباتى كاشفة لجماليات ما أبدعوه وربما كان الوحيد الذى حقق شهرة سرعان ما خبت هو السكندرى محمد حافظ رجب بغرائبيته التى سبقت ما ترجم إلينا قادمًا من أمريكا اللاتينية. وأنا هنا أوظف الخبرة النقدية لإنصاف هؤلاء. وكانت الأصداء إيجابية إلى حد كبير. ● على مدى نصف قرن، كيف كان الواقع الثقافى فى مصر من وجهة نظرك؟ السؤال صعب، سأحاول قدر جهدى الإجابة عنه: رغم الأمية المتفشية، فهناك كتاب عظماء من كل جيل، لديهم كشوفاتهم وإنجازاتهم، لم تسعفهم المؤسسة لكن كان لديهم الإرادة لفرض كتاباتهم الجيدة. من ينسى سعيد الكفراوى ومحمود الورداني، وعبدالحكيم قاسم، وبهاء طاهر. طيلة الوقت هناك صراع بين السياسى والمثقف، فى الغالب يفرض على المثقف التعتيم، ولكن هناك نقطة فى غاية الأهمية وهى أن إرادة الكاتب لو كانت متحققة فسوف يتمكن من فرض إنتاجه مع وجود هدر ثقافى كما فى حالات ملموسة، منها: نجيب سرور، واروى صالح، أحمد عبيدة، يوسف القط، وغيرهم من كتاب لم يتمكنوا من اجتياز السياج الخطر بمناورات تحتاج إلى مكر ودهاء. ● ما توقعات للمشهد الإبداعى فى مصر سنة 2020؟ أتوقع أن تبدأ القصة القصيرة فى احتلال مكانها المناسب بين الأجناس الأخرى كالرواية، كما أننى اتنبأ بظهور جيل جديد من الشعراء الشباب يجددون دماء القصيدة الفصحى، أما العامية فكتابها الموهوبون يحفرون فى الصخر وسيكون لعدد منهم شأن كبير لو مزجوا بين عطاء القصيدة واتجاههم للمسرح والأغنية. ● ما مشاريعك الإبداعية المؤجلة فى الكتابة؟ ثلاث مجموعات قصصية أحاول إكمال بعض الرتوش بها: «فك الضفيرة»، «قهوة على الريحة»، «جويدان وعرندس». ● ما الشيء الذى تمنيت أن تكتبه، ولم تستطع كتابته حتى الآن؟ تمنيت أن أغير طريقتى فى الكتابة لأمنح نفسى بعض الحرية فى التعبير عن مواقف منتزعة من الحياة فى حيز صغير للغاية، متخلصًا من فخامة اللغة وجلالها، وهذا أمر يحوطه كثير من العواقب، وقد نجحت فى تحقيقه فى مجموعتين سابقتين هما: «الأبواب» 2013، «اللمسات». ● ماذا تعنى لك هذه الكلمات: دمياط: مدينة حرفية، اشتغلت فى حوانيتها صبيًا، ومازالت نشارة الخشب عالقة بروحى حتى اللحظة. القاهرة: مدينة خرافية فى ضجيجها وزحامها، أحب أن أمر على مقاهيها لأشاهد طلة نجيب محفوظ رغم علمى أنه قد صعد. مثقف: لا يؤلمنى غير مثقف يحنى رأسه للخرافات، ويمضى فى نفس الطريق الذى يقوده أصحاب اللحى الشريرة، والنظرات الغاضبة. قصر ثقافة: يتشكل حسب رواده، وكان من حسن حظى أن أعيش زمن كان رواده: محمد علوش، محسن يونس، محمد الزكي، مصطفى العايدي، محمد أبوالعلا السلاموني. الوضع الآن مختلف. ثقافة جماهيرية: يجب أن نحافظ على الكيان، بتطويره وتثوير أدواته، وهذا ممكن لكنه يحتاج إلى مساندة من الدولة، ودعم حقيقى مش كلامى من القيادات العليا بالبلاد. ● وما أحلامك فى 2020؟ لقد كففت عن الأحلام منذ سنوات، ولما كان عمرى قد اقترب من 69 عامًا فلدى فقط أمنية وهى أن أنشر ثلاث مجموعات قصصية انتهيت منها. بعد أن أصدرت عام 2019 مجموعتين، هما: «أتوبيس خط 77» و«حذاء بنفسجى بشرائط ذهبية». أنا أكتب لأشعر بالبهجة، وأريد أن يجد القارئ المتعة فى نصوصي. كما أن لى روايتين بإدارة التفرغ سجلت فيهما انطباعى عن ثورة 2011، ولو تعثر النشر لموقفى المنحاز لثورة الشباب فسوف أبيع عفش بيتى وأنشر على حسابى ما يعن لي. هناك أمنية أخرى: الحفاظ على المشروع القومى للترجمة، واستحداث لوائح وقوانين تحمى الكاتب عندما يتعثر ويتعرض لظرف صحى قاسٍ، كما حدث مع رفعت سلام، أنا أعرفه شخصيًا منذ السبعينيات كشاعر متحقق.