يتميز مشروعه الأدبى بالطابع الفكرى والإنسانى، وتتسم تجربته فى الإبداع بالانفتاح والتنوع والعمق، تأثر الروائى فكرى داود بفترة الغربة التى قضاها فى إحدى دول الخليج، فتناولها فى ثلاثة أعمال روائية هى وقائع جبلية وعام جبلى جديد والمتعاقدون، قدم الحيوان كفاعل وليس كمفعول به، كتب للأطفال متأثرا برحيل ابنته سارة، وقدم القصة الدمياطية نموذجا فريدا من بين أدب أقاليم مصر. حول مشواره الإبداعى كان لنا معه هذا الحوار: تتميز كتاباتك بالطابع الفكرى والإنسانى، وتتسم بالتنوع والانفتاح على مختلف صنوف السرد الأدبى، فماذا عن نشأتك وروافدك الثقافية؟ ولدت بقرية السوالم إحدى قرى شمال الدلتا، لأب «يفك الخط» حافظ لسير البطولات الشعبية وأم ورثت «الحكى» عن أمها، تأثرت كثيرا بمعلم الإبتدائى القارىء «الحكاء»، امتلكت مبكرا «ألف ليلة وليلة» و«كليلة ودمنة»، مع جدتين لا تنطقان إلا بالحكمة والقص الموروث المملوء بالخيال والخرافات، والعم شروش بائع الكتب والجرائد والمجلات، ومجتمع كل ما به طازج، يدفع للتأمل والتفكير، وأناس يكفيهم الكفاف ليحمدوا الله، عشقت منذ الصغر الكتب القديمة ، اقتادتنى رواية ألف ليلة وليلة، فى طريق السرد، لدرجة أننى هجرت الجامعة عاما كاملا، وبقيت بالبيت للقراءة والكتابة فقط، وكان حدثا جللا فى العائلة والقرية، لم يسبق لأحد تسجيله، فما الحياة عندى إلا قراءة وكتابة، تتخللهما بقية شئون الحياة. بدأ مشوارك الأدبى بالمجموعة القصصية «الحاجز البشرى»..حدثنا عن تجربة كتابتها، وكيف استقبلها الوسط الأدبى؟ فكرة المجموعة أساسا معنية بالحاجز البشرى الكبير من المنافقين والموظفين الملكيين أكثر من الملك، الذين يحولون بين المسئولين، وبين البسطاء والمقهورين كأهل قريتى وما شابههم، الآملين فى الحصول على أبسط حقوقهم، لكن المجموعة حوت صنوفا أخرى من القهر والمعاناة، وعلى فكرة قصة الحاجز البشرى نشرت بمجلة الأسبوع الأدبى السورية 1993، قبل صدورها ضمن مجموعة عام1996، ووقائعها -تقريبا- حدثت لاحقا ببورسعيد فى أثناء زيارة مبارك عام 1997، وهذا يوضح أن الكاتب فى أحد تجلياته مستشرفا للمستقبل.وقد قوبلت المجموعة بترحاب من النقاد، وكتب عنها بعضهم كسمير الفيل وخيرى عبد الجواد وسمير عبد الفتاح وجمال سعد وفؤاد حجازى وغيرهم، وأفضل ما كتبوه عنها أنها ليست تقليدا أو استنساخا. رواية «وقائع جبلية» جزء من ثلاثة أجزاء منفصلة متصلة يجمعها التعبير عن الغربة، هل نحن بصدد سيرة ذاتية؟ تجربة السفر والاغتراب كنز مازلت أنهل منه، والكتابة عن تداعياتها، ليست سيرة ذاتية أبدا، فالبطل فى الجزء الأول من مجموعتى «صغير فى شبك الغنم»، وفى رواية «وقائع جبلية» كان نقطة ضمن نقط تائهة، بين الصحراء والجبال، فبات الأشخاص كجراد جائع يجاهد كى يعيش، ووسط هذه المجاهدة، تتلاطم الخواطر والتداعيات ، والانكسارات، والانتصارات الزائفة، والتردى بين حيواتهم السابقة والآنية، الكل يريد التهام الكل، والمفاجأة أن المحليين أيضا كانوا يعانون نفس معاناة الأغراب. فى رواية «المتعاقدون» اختزلت تجربة اغتراب المصريين للعمل بدول الخليج فى شخصية «عبد البديع»..لماذا؟ عبد البديع ليس إلا نموذجا للمغترب المضطر، ومن اللحظة التى وطئت قدمه مطار جدة، عكست شخصيته فى الرواية الأبعاد النفسية فى العلاقات والصراعات غير المبررة مركزا على الآلام النفسية التى تكتنف كل خلجة من خلجات الاختلاط البشرى العجيب، المتجمع صدفة فى بقعة نائية عن العمار، بين الجبال والرمال الممتدة، ناهيك عن أهل البلدة ، من بدو رعاة وطلاب يختفون خلف الجبال، بمجرد انتهاء الدراسة، ولا يظهرون إلا صبيحة اليوم التالى. خلطة غريبة من البشر، تحتل مكانا غريبا نائيا، تتعجب وتتعدد الأسئلة، دون تلقى أى إجابة. طرحت الدور الروائى للحيوان فى رواية «عام جبلى جديد»، وقدمته فاعلا لا مفعولا به، حدثنا عن تلك التجربة. هى رواية كان البطل فيها هو القرد بشكل رئيسى، بما يحمل رمزه من موروث لدى العرب والمصريين، القرد المتكاثر بصحراء جنوب السعودية، الذى وجد نفسه مضطرا للتعامل من البشر القليلين، الذين فُرضوا عليه فى موطنه، حيث يعيش فى أسر وجماعات ومجتمعات، لها قوانينها الصارمة، فى مقابل المغترب الإنسان الفرد، الفاقد لأسرته وأهله وربما كرامته، والخائف تماما من فقد حياته بلدغة عقرب أو ثعبان، ليخالط أناسا قلائل من السعوديين المغتربين داخليا، والمصريين المغتربين خارجيا. وأهم ما شغلنى فى هذه الرواية، هو تكنيك الكتابة: فهى فصول منفصلة متصلة، جاهدتُ طويلا كى أتيح للقارئ، إمكانية قراءتها من أى فصل فيها، حتى ولو بدأ بالفصل الأخير. لماذا اتجهت لأدب الأطفال وقدمت العديد من الأعمال منها «سمر والشمس» و«الاختيار الصحيح»؟ أولا أنا لا أعتبر نفسى كاتبا محترفا للأطفال، فقد دفعتنى ابنتى «سارة» رحمها الله، لأكتب مجموعة «سمر والشمس» ثم جمعت ما نشر فى مجلات الأطفال ونشرته فى مجموعة «الاختيار الصحيح» كتاب قطر الندى، فالكتابة للأطفال تحتاج تلقائية خاصة جدا، لا يصل إليها بسهولة من يميلون إلى التفكير والتفلسف مثلى أو هكذا أدعى، لكننى فقدت كاتبة أطفال عبقرية كتبت مجموعة للأطفال وهى فى الثالثة عشرة من عمرها، نشرت مع مجموعات الكبار فى سلسلة كتاب قطر الندى بهيئة قصور الثقافة بعد وفاتها مباشرة، فقد توفيت عن 17سنة وكانت وقتها فى عامها الثانى بالجامعة. «طيف صغير مراوغ» و«نبش فى ذاكرة الحصار» و«صغير فى شبك الغنم» أعمال نشرت إلكترونيا، فهل معوقات النشر الورقى كانت الدافع الرئيسى لتوجهك إلى الشبكة العنكبوتية؟ اتجهت إلى النشر الإلكترونى ليس بسبب معوقات النشر الورقى، بقدر ما كان رغبة فى المواكبة وخوض التجربة، حيث نشرت ورقيا رواية «طيف صغير مراوغ» فى هيئة الكتاب لاحقا ونشرت مجموعة «طيف صغير مراوغ» بهيئة قصور الثقافة، وهذا لا يمنع أن جاءت فترة تعاقدت فيها مع دار نشر إلكترونية نشرت فيها بعض أعمالى ولا تنس المواقع الأدبية العديدة التى سبقت ظهور الفيسبوك، كانت فترة تفاعلية جيدة. المكان والزمان والاهتمام بالتفاصيل تيمات أساسية فى أعمالك الأدبية، فهل للميراث الثقافى دور فى ذلك؟ بالتأكيد، فأى حدث لابد له من مكان وزمان، حتى لو كان افتراضيا، يرقى كل من الزمان والمكان لدي، ليكونا بطلين فى أعمالي، وكذلك اللغة، ولا مانع لدى من استخدام كل المتاح من حيل وتقنيات، لأصل إلى هدفي، وأثمن التفاصيل تماما، فالملائكة - لا الشياطين - تكمن فى التفاصيل. وذلك لأنى لا أكتب إلا عبر مشروعات أحتشد لها، مستخدما كل عناصر المكان، فى كل وقت وحين، خصوصا أننى لا أكتب عشوائيا، ولابد من وجود مشروعات محددة للكتابة، فالسفر مشروع، وتحولات الريف المصرى مشروع، والتشبه الكائن بالمدينة مشروع ، والتطرف والفساد..وهكذا. لك العديد من الأبحاث حول القصة الدمياطية قدمتها كنموذج أدبى متميز، فما الذى حققته فى تلك الأبحاث، وما الذى يميزها عن غيرها؟ هذه الأبحاث وثقت وجهة نظرى فى القصة الدمياطية، وهى متاحة على النت، استعان بها البعض فى كتاباتهم عن دمياط كالباحث محمود الزلاقي، فالقصص تتنوع بشكل غير مسبوق، نظرا لتباين الأجواء والأماكن والأطر الاجتماعية والفكرية، التى يستقى منها الساردون مداد كتاباتهم، رغم محدودية المحافظة مساحيا، ورغم تقارب البُقع المسكونة بالبشر، فدمياط القديمة لها فرسانها كالأسمر والفيل والشيطى وياسين، حيث المجتمع القديم المستقر، وصناعة الأثاث والحلوى والجلود و...، غير مجتمع الصيادين بعزبة البرج والسيالة ومحسن يونس، غير ريف كفر سعد ومنه قريتى السوالم، التى سأظل أحارب من موقعى بها، حيث يعيش أبطالى ويعانون ويفرحون ويموتون. برأيك ما هى سلبيات وإيجابيات النشر الإلكترونى؟ من سلبيات الوسط الأدبى عموما، الشللية والانتفاخ الذاتى لمحدودى الموهبة، والضجيج المتعمد حول البعض، والمسابقات الموجهة، آفات هذا العصر. وقد عكس النشر الإلكترونى هذه السلبيات وأسهم فى اختلاط الحابل بالنابل، وإمكانية تكوين رأى زائف لمجرد الاتفاق مع البعض لمتابعة المنشور، وصعوبة السيطرة أو «الفلترة»، وعدم وجود حركة نقدية موازية، وانتشار السرقات الأدبية. الإيجابيات: سرعة النشر، قلة التكلفة، مواظبة المنشور للحقبة التى كتب فيها، سرعة التفاعل مع الآخر، إمكانية الاستعانة بمساعدات أخرى كالصوت والصورة...وهكذا. حدثنا عن مشاريعك الأدبية المستقبلية؟ لدى رواية «خلخلة الجذور» على وشك الصدور بهيئة الكتاب، ومجموعة «رحيق الجميز» بنادى القصة تنتظر النشر فى سلسلة الكتاب الذهبى، وفى يدى الآن رواية «دروب الفضفضة»، وهى التى حصلت بها على منحة التفرغ من وزارة الثقافة منذ عام، وهى ثلاثية، أنجزت منها المرحلة الأولى، وهى ترصد الانقلاب الهرمى فى الريف المصرى منذ ثورة 1952 والخمسين سنة التالية لها، كما أستعد لتقديم مجموعة قصصية جديدة بعنوان «صعود المداخن»، نشرت معظم قصصها فى الجرائد والمجلات المتخصصة.