كان عرض مسرحية «اللعب في الدماغ» الذي عرض منذ عدة سنوات على مسرح الهناجر مدهشا لوضوح الرؤية وبراعة التقديم مع توازن تام بين كافة عناصر العمل الفني حتى ولو وقع العبء الأكبر على بطله الفنان خالد الصاوي الذي ظل في أدائه محافظا على الإيقاع الساخن المتفجر طيلة الوقت. وبالطبع لم تكن الدماغ التي يتم اللعب فيها هي دماغ الشعب المصري وحده؛ بل دماغ البشر الذي أصبح مهددا بالانفجار من الدور والفعل الأمريكي المتعدد المتداخل المتضارب والمعقد إلى درجة تجعله في عيون كثير من بسطاء العالم وضحاياه غامضا وغير مفهوم. تماما مثلما يحدث الآن من لعب في الدماغ المصري أو في الأدمغة المصرية ويبدو متجسدا تماما على ساحة هذا الوطن ومتكررا في كل لحظة، وكأنه فيلم سينمائي خطر وموحد إلى درجة تثير الرعب من بعد قيام الثورة وانتهاء الثمانية عشر يوم المجيدة إلى الآن. وقد حوت مشاهده لقطات بشعة من الخطف والقتل وطلب الفدية وإثارة الرعب والبلطجة المنظمة وخوف الشرطة – الذي استمر طويلا - من التدخل أو ترددها حرصا على عدم التورط. مثلما تضمّن لقطات للسرقة بالإكراه ولقطات فريدة للانتقام الشعبي والجماعي من مجرمين. ولقطات لقطع الطرقات والسطو في عز الظهر على البنوك وتكسير سيارات المواطنين واقتحام مكاتب المسئولين في الشركات والجامعات وحبسهم أو احتجازهم بشكل انتقامي يمنعون معه من أداء حاجاتهم الضرورية ولا مانع أن يكون ذلك مصحوبا بضرب التلاميذ الأساتذة. أما الأدهى والأمرّ والمثير للقلق الشديد فهو إضراب ضباط وأفراد من الشرطة اعتراضا على قرار بنقل أحد ضباطها في محافظة الشرقية بعد سرقة سيارة حراسة تابعة لرئاسة الجمهورية أثناء وقوفها في الخدمة في واقعة هزلية تصلح موضوعا لفيلم سينمائي كوميدي مثير. بينما يمثل هذا الإضراب سابقة خطيرة تهدد بالفوضى وتشجع على الانفلات إن لم تكن شجعت عليه في حادث السطو النهاري المعلن على محل صائغ في مركز ديرب نجم التابع لمحافظة الشرقية نفسها والذي وقع متزامنا مع الإضراب وكنتيجة منطقية لغياب الشرطة المتعمد من فاعليه. وعلى نفس موجة اللعب في الدماغ المصري الذي لم يعد الغرض من إرباكه والهدف من شله أو تدميره خفيا؛ كانت حشو المظاهرات أمام السفارة الأمريكية بعناصر البلطجة واضحا. مثلما كان استغلال الاحتجاجات ضد الفيلم التافه - المسيء للرسول صلى الله عليه وسلم - بمجموعات ضالة ووجوه مخربة مدسوسة مدفوعة الأجر واضحا تماما. فيما كان النبش فيه على الجانب الآخر مستمرا يقوم بأدائه منتسبون للدين يسبّون فنانة، وهم يعرفون تماما أنه فعل لا يقره الدين ولا الخلق. بينما تصعّد الفنانة من ردود أفعالها بمقاضاتهم ويردون على ذلك بردود أفعال أشد. كما تجد الصحافة المشبوهة والقنوات الفضائية التي تبحث عن جنازات مصرية تشبع فيها لطما فرصتها للبث وللفضح المغرض ولضخ دماء الإثارة. وكي تكتمل الصورة ويصبح الدماغ المصري مخربا تماما تبدأ الحرب ما بين مسيحيين مصريين وشيوخ سلفيين على نغمات التصفيق المنتظم ممن يسمون أنفسهم أقباط المهجر. فيما لا يريد الطرف المتشدد إطفاء لهيب الحريق المنتظر برفضه كل ما أبداه مسيحيو مصر - أفرادا وشخصيات عامة ومؤسسات دينية - من اعتذار صادق وإعلان لا يشك فيه عن الغضب من الفاعلين الذين أعلنوا أنهم لا يمثلونهم وأنهم قد أصبحوا غرباء عنهم غربتهم عن وطنهم . ذلك لأن هناك من يذكي نار الفتنة ومن يريد جاهدا أن تستعر فتأتي على مصر بأهلها أجمعين. فرع آخر من النبش في الدماغ تؤديه الكتابات التى لا نخفي تشاؤمها ولا تخجل من إشاعة وبث شكوكها في أي جهد تبذله الحكومة حتى لو كان حقيقيا ومخلصا ومثمرا. وكأن الفعل المثالي للمعارضة هو الرفض التام والتشكيك المطلق والتخوين بلا حدود. وهكذا تستمر حناجرها تنعق وأقلامها تصرّ منذرة بسقوط الوطن الوشيك في المجاعة وموت المواطنين القادم من برد الشتاء، بسبب نقص الغاز وتوقف ضخ السولار والغلاء المنتظر للبنزين. مع النفخ الدؤوب في حناجر الموظفين المطالبين بزيادة الرواتب أو بمساواة موظفي الجامعات وإدارييها برواتب الأساتذة. وما يهدفون إلى تعميمه حين تعلو مطالبات الممرضات والممرضين بمساواتهم بالأطباء. والميكانيكية والسائقين والمهنيين بالمهندسين. ثم الجنود بمساواتهم بالضباط. وبعد ذلك الضباط الصغار بالقيادات الكبيرة . والأطفال بآباء وبالأمهات والقصر بالبالغين. والتلاميذ بالمدرسين.. إلى آخره في ظاهرة لم يعرف لها العالم مثيلا. لا في العالم الرأسمالي الشرس الذي يمتص دماء عماله وموظفيه. ولا في أشد أحلام الشيوعية تطرفا وأكثر مطالب البروليتاريا جموحا. بحدث كل ذلك ويتم التحريض عليه وتشجيعه رغم علم الجميع بأن المصانع لا تنتج وأن السياحة متوقفة. وأن الزراعة مهددة في الحقول. بينما تعجز عيونهم عن رؤية أي إصلاح. وتصم آذانهم عن الإنصات لأي دعوة للانتظار وإعطاء الفرصة للعمل. وإرادتهم عن توقيف عدادات الحساب التنازلي للأيام المائة وهم يتمنون الفشل لأي جهد ويعملون على تعويق أي تقدم. ويغمضون عيونهم عن رؤية أي إصلاح. حتى ميدان التحرير الذي تحرر من المجرمين والبلطجية والعاطلين وعاد منظره رائقا وجميلا ينتظر التطوير ورفع نصب الشهداء؛ لا يؤثر فيهم بل ويسخرون منه. مثلما يتمادون في السب والقذف وهز كل ما يرونه ثابتا وهدم كل ما بقي لنا حتى الآن قويا راسخا. فيما تشكل انقلابات الآراء الواضحة بل المخجلة ظاهرة جديرة بالدراسة: فالذين كانوا من دعاة الثورة وحماتها – أو هكذا تظاهروا وادعوا – أصبحوا أبواقا صارخة مفزعة تترحم على الماضي بل وتدعو لعودته. والذين كونوا أحزابا وانضموا إلى أحزاب ؛ سرعان ما انقلبوا عليها وكونوا أخرى. والذين ناصروا ساسة أو رجال أعمال رأيناهم يستبدلونهم بآخرين في أكثر من فعل فاضح لم تعرفه أشد التغيرات والتقلبات السياسية قذارة وادعاء. يحدث كل ذلك فهل تحتمله أدمغة المصريون.. وإلى متى إذن؟