هذا مقال العيد. كل سنة والجميع بخير. في العيد لا أحد عادة يقرأ الصحف. الكل يهجرها كل حسب هواه. في بداياتي عملت في جريدة «الخرطوم» التي كانت المعارضة السودانية تصدرها في القاهرة. كان مسؤولوها -وهم أناس من أطيب خلق الله- يأخذونها من قصيرها ويحتجبون عن الصدور أيام الأعياد. يعطوننا «العيدية» ومعها عبارة: «على بيتك يا زول.. عيّد وانبسط». ولأن هذا المقال لن يجد قارئا واحدا يوحد ربنا يقرؤه، فقد فضفضت فيه عن أشياء خصوصية. لكن لو حدث وأفلتت سطوري من الوحدة والهجران ووجدت من يطالعها فأرجوه أن يعتبر ما فيها سرا بيننا و «ما يطلعش لجنس مخلوق». «أنا في انتظارك مليّت».. إنها أم كلثوم. الحمد لله أننا في العيد وليس رمضان. لو نشر اسمها في الشهر الفضيل لخرج علي أحدهم واعتبر ذلك رجسا من عمل الشيطان. لكني مقتنع أن غناءها لا يضر. بالعكس إنه يرتقي بالأحاسيس والمشاعر. يجعل إنسانيتك تسمو. مسكين من يحرم نفسه منها. نستقبل العيد معها: «يا ليلة العيد آنستينا.. وجددتي الأمل فينا». كثير من مواقف حياتي تحمل ذكريات مخلوطة بأنغام صوت كوكب الشرق. في حب المراهقة البريء: «القمر من فرحنا حينور أكتر.. والنجوم حتبان لنا أجمل وأكبر.. والشجر قبل الربيع حنشوفه أخضر». وفي التجربة الفاشلة: «بعد الود اللي راعيتهولك.. بعد الحب اللي وهبتولك.. بعد العمر اللي انا عشتولك.. فيه إيه تاني أقدمهولك؟!!».. وعندما تنسى هموم الدنيا وتكشيرة رئيسك في العمل وتكون مع الحبيب تناجيان القمر: «يا حبيبي إيه أجمل م الليل واتنين زينا عاشقين.. تايهين.. ما احناش حاسين العمر ثواني ولا سنين.. حاسين إننا بنحب وبس نحب وبس.. عايشين لليل والحب وبس.. يا حبيبي الحب حياتنا وبيتنا وقوتنا.. للناس دنيتهم واحنا لينا دنيتنا». ولما تشعر أن المسافة بينك وبين من تحب مثل المسافة بين الأرض والنجوم تجد كوكب الشرق حاضرة: «غريب على باب الرجاء طريح.. يناديك موصول الجوى وينوح.. يهون عذاب الجسم والروح سالم.. فكيف وروح المستهام جروح.. وأهواك لكني أخاف وأستحي إذا ما قلت قلبي في هواك جريح». حتى في لحظات التجلي الصوفية تحاصرك: «عرفت الهوى من عرفت هواك.. وأغلقت قلبي عمن عداك.. وقمت أنا جيبك يا من ترى خفايا القلوب ولسنا نراك.. أحبك حبين.. حب الهوى وحبا لأنك أهل لذاك.. فأما الذي هو حب الهوى فشغلي بذكرك عمن سواك.. وأما الذي أنت أهل له فكشفك لي الحجب حتى أراك». هكذا هي حاضرة دائما. في انتظاري لأحلام كثيرة مؤجلة تأتيني: «أنا في انتظارك.. مليّت». وأنا مليت من أحداث مصر. أيام مبارك كانت حياتنا جافة متكلسة.. سلطة تتسلط وتسرق، وشعب مقهور ومسروق، لكن نظامه مثل القطط بسبع أرواح. لم يتركنا حتى الآن.. ينغص علينا العهد الجديد ولا يترك فرصة لمحاربة الرئيس الذي اختاره الشعب إلا واستغلها. نحن من يدفع الثمن. فلول مبارك لن تستسلم بسهولة حتى بعد إقالة «العسكر» من السلطة. وسط الزهق والملل حققت مؤخرا حلما كان مستحيلا قبل سنوات. إنه ضمن أحلام كثيرة جاءتني ربما في اللحظات الأخيرة. لكن أن تأتي متأخرة أفضل من ألا تأتي. لقد أصبحت عضوا في «دولة الأهلي». الانتماء لأحد الأندية الرياضية والاجتماعية العريقة يمثل نوعا من «الوجاهة الاجتماعية». يقولون إن الفتاة العضو بأحد تلك الأندية يزداد طابور خطابها وطالبي القرب منها. العريس المنتظر سيحصل عن طريقها على عضوية مجانية ولا يدفع المبلغ الضخم المطلوب للاشتراك. صديق لي مر بتجربة مشابهة. والد فتاته الجلف قال له بعدما دفع «المهر»: «يا دوب يكفي لعضوية النادي!!». فشلت الخطبة.. وضاعت عليه العضوية المجانية، وطارت لآخر من المحظوظين! أخشى أن يخرج أحدهم أيضا ويقول إن «الأهلي» وما شابه من الأندية حرام أو مكروه، على اعتبار عدم الفصل بين الجنسين داخله. لكن لعله يقتنع بخطأ تفكيره لو تذكر أن رواد النادي هم أسر تذهب أساسا مع أطفالها، ليكون الجميع مثل عائلة كبيرة واحدة. من زمان أنا عضو بالانتماء ل «الأهلي». مشجع لأعرق الأندية العربية ونادي القرن في إفريقيا وأحد أهم أندية العالم وأكثرها فوزا بالبطولات. طوال سنوات الطفولة والصبا لم أكن أعرف سر تعلقي ب «الأهلي». اكتشفت بعد النضج أن الأمر لا يتعلق ببطولات ولا ينتهي عند مهارة أجيال من لاعبي الفريق، لكنه مرتبط بنموذج نفتقده في حياتنا. نموذج «دولة عصرية» تدار بكفاءة وبانتخابات حقيقية نزيهة. العضوية العاملة بالنادي العريق ليست بالنسبة لي «وجاهة» أو رفاهية زائدة. قد تكون بحثا لأولادي عن قدوة صالحة يزخر بها هذا الكيان العظيم.. هادي خشبة الهادئ المؤدب، أو محمد أبوتريكة «القديس» الذي لم تخرجه أضواء الشهرة ولا سعة المال عن البساطة والتواضع وحب الناس، أو طاهر أبوزيد الرجل صاحب المبدأ. عضوية الأهلي قد تكون ابتعادا عن الفوضى واحتماء بأسوار المؤسسة المصرية الوحيدة الناجحة على مدار العقود الماضية. محاولة لاستلهام روح المكان الذي عاش فيه من قادوا مسيرة النادي منذ نشأته عام 1907 وتحول إلى معقل للوطنية المصرية في مواجهة الاحتلال الإنجليزي. أبرز الأسماء «صالح سليم». نظرة إلى تمثاله الذي يزين وسط النادي تعيدك إلى مواقف وسمات زعيم الأغلبية الشعبية الحقيقي في «المحروسة». الرجل احترم أغلبية المصريين الذين ارتبطوا بالنادي وعشقوا شخصية رئيسه. تصرف من هذا المنطلق واكتفى بحب الجماهير رافضا الجاه والمناصب. وصل إلى الخلود بثقافة «الاستغناء». علاقته كانت متوترة بالسلطة. لم يكن سرا أن «مبارك» يكرهه. إنه لا يحب أصحاب المواقف ومنتصبي القامة ومن يزين الكبرياء هاماتهم. لم ينس أن صالح سليم مشى غاضبا في أثناء حضوره إحدى مباريات النادي المهمة التي كان «المخلوع» يسطو فيها على انتصارات الفريق ليكون في الصورة ويخطف العدسات. غضب «المايسترو» -وهذا لقبه- لما وضع القائمون على الرئاسة كرسيه بعيدا عن الرئيس. قضى البروتوكول أن يكون على يمينه ويساره رئيس الوزراء وكبار مسؤولي الدولة. أصر صالح سليم على أن يكون مقعده بجانب «مبارك»، ليس حبا في الجلوس بجواره، ولكن حرصا على كرامة «الأهلي» صاحب البيت ومستضيف المباراة. لم يجدوا مفرا من تلبية طلبه. مرة أخرى رفض أن يكون في استقبال الرئيس عندما حطت طائرته في ملعب الأهلي، بعدما حاولوا إجباره على ارتداء رابطة عنق. وثالثة كان الرئيس المخلوع يحضر افتتاح إحدى البطولات في صالة الأمير عبدالله الفيصل بالنادي، غاب صالح وأناب عنه نائبه حسن حمدي. لا أدري لماذا تذكرت الرجل عندما رأيت مؤخرا أعمدة كثير من الكتاب بيضاء خالية من أي سطور. إنهم يحتجون على ما يسمونه «سيطرة الإخوان على الإعلام» بعد حركة التغييرات الأخيرة في رؤساء تحرير الصحف القومية. الاحتجاج حق يراد به باطل. الحركة التي أقرها مجلس الشورى ذو الأغلبية «الإخوانية» تضمنت بالفعل أخطاء وأتت بأسماء ضعيفة مهنيا. لكن من رحلوا لم يكونوا أفضل حالا باستثناء من رحم ربي. معظم «المحتجين المحتجبين» يلعبون أدوارا بطولية كما لعبها صالح سليم. لكن شتان الفارق بين من عاشوا طوال عمرهم يلحسون أحذية رجال النظام ويتلقون بتليفون من أصغر ضابط بأمن الدولة تعليمات بما عليهم كتابته، وبين من عاش لا ينافق أو يهادن ولم يطلب شيئا لمصلحة شخصية ويملي تعليماته في وجه أكبر مسؤول، واحتل مقعد رئاسة النادي العريق بأصوات الجمعية العمومية.. وهي بالمناسبة تفوق بكثير من لهم حق التصويت في دول بكاملها. عمل فينا هؤلاء معروفا. مساحة الأعمدة البيضاء الخالية من الكتابة أجمل ومريحة للعين. استراحوا من عناء الكتابة وأراحونا من غثاء ما كانوا يسطرونه على الورق. لكن يا فرحة ما تمت، لقد عادوا للكتابة وامتلأت أعمدتهم وازدادت «غلا» تجاه الرئيس محمد مرسي. أما «مرسي» فقد ازداد حبي له. إنه «زملكاوي» الهوى. أي من المعسكر المضاد ل «الأهلي». لكنه في أول خطاب له قال «أهلي وعشيرتي»، كما واصل «الزمالك» في عهده هزائمه المعتادة. الرئيس لا يعجبه الحال «المايل». أخشى أن يتصرف مع الزمالك مثلما فعل مع «المشير طنطاوي».. ويحيل النادي للتقاعد، وهو يدندن مع أم كلثوم: «فات الميعاد.. وبقينا بعاد.. بعاد»!! نقلا عن صحيفة العرب القطرية