من وأنا صغيرة وأنا بخرج مع أبويا.. في الأول كنت بفرح بالصفارة عشان كانت اللعبة الوحيدة إلي عندي وكنت باستغرب من أبويا لأنه كان بيبهدلني لو حصلها حاجة وأقول لنفسي هي لعبته والا لعبتي، وشوية شوية لما بقى عمري 12 سنة فهمت إنها مش لعبة وإنها هي دي مصدر أكل عيشي. هذه باختصار قصة الست "هدية" ،سايس سيارات ..تجدها يوميا واقفة عند مسجد الشرطة بالدراسة، مرتدية عباءتها السوداء ونظارتها ذات العدسات السميكة التي تسبدلها بالنظارة الغامقة بعد العصر لترضي شغفها بارتداء تلك النظارات التي تمتلكها بنات الذوات، بينما الصفارة ،التي تريح صوتها المبحوح، لا تكاد تفارق شفتيها. فيها لا اخفيها التقيت بصاحبة تلك الإبتسامة الطيبة التي تعكس براءة طفلة صغيرة في جسد امرأة ناضجة، أملها الوحيد أن تجد عملا ثابتا يقيها شر التعامل مع الناس في الشارع، فعلى الرغم من أنها تعمل بجوار إدارة مرور الدراسة وبالتالي فمن الطبيعي أن تجد الحماية من رجال الأمن المتواجدين في المنطقة، إلا أن وجودهم هو المشكلة الحقيقية بالنسبة لها. تقول الست "هدية": خرجت اشتغل مع أبويا من وأنا صغيرة، وكلما كبرت كلما زادت التعليقات السيئة وكنت أرجع كل يوم ودمعتي على خدي، وأرفع يداي للسماء قائلة يارب أنا بكسب لقمتي بعرق جبيني ومش عاجبة الناس يارب ارزقني بشغلانة محترمة. قبل الثورة عانت هذه السيدة ،التي لم تتزوج حتى الآن، من تعنت رجال الشرطة والمرور ومن العساكر اللي كل ما تقبض جنيه يقولولها "فيها لاخفيها"، كما عانت من نظرة الزبائن لها كامرأة تعمل بهذه المهنة فلا يمر يوم إلا وتسمع فيه توبيخا على قبولها هذا العمل. أنا مش بنت ليل وبعد الثورة عانت الأمرين من الانفلات الأمني الذي لم يترك منطقة إلا وضرب بها، إلا أن معاناتها كانت من نوع خاص فحياتها ملك للشارع على الرغم من أنها ليست بفتاة ليل، إلا أنها تسمع عبارات غاية في القبح والإستهجان لمجرد قبولها لهذه المهنة التي تتعامل في 90% منها مع الرجال على مختلف عقلياتهم وأخلاقياتهم. ونظرا لجهل وبساطة الست "هدية" فلم تستطع التقدم بطلب توظيف أو معاش لها أو لوالدها القعيد في المنزل. لاحظت وأنا أتحدث معها أن إحدى عينيها لا تتحرك وأن هناك آثارا لحروق على ذقنها، وعندما سألتها عنها روت لي أن الله ابتلاها بمرض الغدة الذي أسفر عن اصابتها في العين، وأنها اضطرت لمد يدها للغريب والقريب حتى تمكنت من اجراء عملية زرع عدسة. أما فيما يخص إصابتها في ذقنها فقالت عنها في أسى أنها تعرضت لحرق وهي تشعل "الوابور".. فحتى الآن لم يدخل البوتاجاز منزلهم الصغير الذي يضم والديها وشقيقها، فما تحصل عليه مقابل وقفتها منذ الصباح وحتى المساء بالكاد يكفي الطعام والشراب والدواء والايجار. طيلة حديثي مع هدية لم تغب ابتسامة الرضا عن هذا الوجه الذي أرهقته الشمس ، كما لم تغب تلك اللهجة الشفافة التي تنم عن جوهر بري لا يختلف كثيرا عن ملامحها الطفولية.. سألت نفسي عن سر رضائها وسعادتها رغم ظروفها القاسية في مقارنة سريعة بينها وبين تلك الوجوه التي تفتقد لكل معاني الود والرحمة فتراهم يركبون أفخم أنواع السيارات ويتقلدون أعلى المناصب إلا أنهم دائما وأبدا غير راضين والتكشيرة تكاد تمزق وجوههم، لأرد على نفسي : ربما هي بركة الشهر الكريم.