عبرت احتفالات 23 يوليو عن حالة مصر ما بعد ثورة 25 يناير. فأغلب الناس مرت بيوم الثورة مرور الكرام، فالتلاميذ لم يعملوا عنها شيئا لأن المدارس في إجازة والموظفون حصلوا على يوم راحة من العمل. ظلت احتفالات 23 يوليو في طي الكتمان داخل المؤسسات الرسمية إلى أن ظهرت فجأة على الملأ، بعد بياني رئيس الجمهورية، ووزير الدفاع. فقد حرص الرئيس محمد مرسي على إلقاء بيان رسمي، علمنا أن تسجيله استغرق وقتا طويلا، بعد أن أعاد الرئيس قراءاته عدة مرات. جاء البيان صدمة للكثيرين على رأسهم المجلس العسكري، والناصريين وبقايا الشعب الذي مازال يحن لثورة 23 يوليو ومسيرة الزعيم جمال عبد الناصر. أعلن المجلس العسكري عن صدمته في بيان حاد صدر على لسان المشير حسين طنطاوي، حيث توعد من يمسون مكتسبات ثورة 23 يوليو ومنجزاتها. في حالة الصدام بين القوى المتصارعة على قمة الحكم في الدولة، ظهرت لنا أطراف القوى المستخدمة في المعركة، فهناك الصحف التي كشرت عن أنيابها لضرب الرئيس في مقتل، وأظهرت أن بيانه جاء انتقاما من جماعة الإخوان المسلمين لعبد الناصر وثورة يوليو، بينما انحازت الصحف والفضائيات في معظمها لصف المجلس العسكري، بعضها يسعى إلى الانتقام السياسي وآخر للتشفي، ومنهم من يرى أن معاول الهدم يجب أن ترفع على وجه السرعة في قمة الهرم السياسي، رغبة في إزالة النظام برمته. على غير العادة جاءت احتفالات المصرييين بثورة يوليو، فبعد أن كانت مناسبة للأفراح، فإذا بها ساحة الضرب تحت الحزام، بين الرئيس والمجلس العسكري وأعوانه. وهذا الأمر نراه طبيعيا في بلد يتعرض لما يمكننا أن نطلق عليه " فتنة العسكر". فنحن في مرحلة فارقة، إما أن تنتقل الدولة من شرعية حركة الضباط الأحرار التي قامت في 23 يوليو 1952 إلى شرعية ثورة الشعب في 25 يناير 1952. في الثورة الأولي كان الشعب متفرجا على حركة الضباط، التي أعلنت أنها ترغب في تخليص الشعب من الفساد وإقامة حياة ديمقراطية سليمة، ثم انتقلت بطموحاتها إلى محاربة الاستعمار إلى القضاء على الإقطاع. ومع السنوات تخلى العسكر عن وعودهم تدريجيا، فلا عاش الشعب أية ممارسة ديمقراطية، وجاء الإستعمار من خارج الحدود إلى داخل الأرض في سيناء، وخلقت الثورة الإقطاعيين الجدد، الذي نهبوا ثروات مصر الحاضرة والمستقبلة. وعاش الشعب في كنف احتفالات ثورية بينما ضلت الثورة الأم الطريق، وخلقت أجواء ثورة شعبية حقيقية، بدأت تتأجج منذ سنوات. تراجع حال مصر، كما شاهد الجميع، والشئ الوحيد الذي ازدادت أهميته، هي مكانة العسكر في الدولة. باسم الثورة تحول العسكر إلى قضاة في المحاكم ، وباسم الشعب تحول العسكر إلى رؤساء شركات تعمل في الزراعة والصناعة والتجارة والتلفزيون والسينما، وباسم الأمة أصبح العسكر رؤساء المدن وسكرتيرو العموم والمحافظين وقادة الحكومات والوزارات، وباسم مصر تحول العسكر إلى سفراء وقناصل ومندوبين للدولة في الداخل والخارج. هالني أن أراجع خريطة على أحد المواقع الألكترونية، حول مكانة العسكر في إدارة الدولة، فوجدتهم يحتلون مناصب لا حصر لها، لم يستطع أن يصل إليها أي فئة أخرى في المجتمع. وما أفزعني أن عهد السخرة الذي ثارت من أجله ثورة يوليو عاد من جديد، ونراه على أيدي حبيب العادلي الذي يحاكم حاليا بتهمة استخدام جنود الأمن المركزي للعمل بالسخرة ، وهم من المجندين في الخدمة العسكرية العامة، في استطلاح أراضيه وبناء شركاته وفيلاته. فإذا كان الوزير قد فعل ذلك كما هو ثابت في التحقيقات، فما بالنا بصغار الضباط وغيرهم من القادة الذين تحصلوا على ملايين الأفدنة من أراضي الدولة في أنحاء المحروسة. لقد أظهر الخلاف بين الرئيس مرسي والمجلس العسكري، أن هناك هوة في الفكر بين الطرفين ، وهو أمر عادي لأن كل منهما ينتمي إلى ثورة مختلفة. في الحالتين نحن أمام فتنة أثارها العسكر ويستمرؤون الاستمرار فيها، في محاولة لاقناع الناس بأن الشرعية التي يتحصلون فيها على مميزاتهم هي شرعية ثورية. غريب أن يحاول البعض الزج بنفسه في أتون هذه المعركة، وينسى أن الثورة الأولى التي باركها الشعب، حتى أطلق عليها البعض الثورة المباركة البيضاء، هو نفسه الذي دفع الدم للتخلص من الفساد الذي صنعه بعض رجالها أوبقايا نظامها. هذا النزاع كان ضروريا ويحدث في كافة العصور، فعندما يخرج النظام الذي يصنعه الناس أو يشاركون في صناعته عن أهدافهم ينقضون عليه، وتغييره بالسلم أو الحرب. وعلى المتحاربين خلف الأضواء ومن يقفون بجوارهما أن يدركوا أن عجلة التاريخ تتحرك دوما للأمام وأن مصر لن تعود أبدا للخلف. فإذا ما أصبحت الحرب بين الطرفين حول لمن يكون الحكم اليوم، فلن يكون الحكم إلا للشعب، فلا عسكر ولا غيرهم، بعد أن أصبحت كلمة المواطن هي العليا. وما علينا إلا البحث عن مخرج من تلك الفتنة المصطنعة التي تنم عن رغبة قوية في الانفراد بالحكم، أو اجراء صفقة ما حوله، بما يزيل الشعب عن طريق الطرفين. إذا كان العسكر يبحثون عن شرعية، فهي موجودة بحكم الدستور، وليس فيه ما يمنح أية سلطة لقوة منفردة، بل الجيش قوة تنفيذية في يد الدولة، يصون ثرواتها ويرعي حدودها بقوة رجاله وقادته. وإذا كان الرئيس يبحث عن رئاسة ثورية، فالشعب صاحب الثورة وصانعها وحارسها. فلا تمايز بين الطرفين، ولا قيمة لهما إذا لم يعملا على ضمان مكتسابتها وتحقيق رسالتها التي قامت من أجلها وهي " خبز .. حرية .. عدالة اجتماعية" وما يتعلق بها من مطالب لكافة فئات وطوائف المجتمع. وعلينا أن نترك للتاريخ أن يحكم على الثورتين، لا نجعل الناس تتعارك على أيهما أفضل. لعل الاتفاق على هذا المبدأ يفتح أمامنا حوارا حول العيد القومي الذي يجب أن نحتفل به، هل هو يوم 23 يوليو أم 25 يناير. فعادة الشعوب لا تتوقف عند نقطة محددة لاحتفالاتها، لأن الانتصارات تتجدد، والأهواء تتبدل عبر الزمن. فلا ينكر إمرؤ أن هوى الشعب حاليا مع ثورته الجديدة، فإذا احتجنا للفصل فما علينا إلا الاستفتاء الشعبي ليكون رأيا حاسما للجميع، كما تفعل الأمم الراقية. إما إذا أراد العسكر شرعية جديدة فشرعيهم الكبرى التي نحتفي بها من القلب فهو يوم السادس من أكتوبر، يوم الانتصار العظيم على العدو الصهيوني، وتحرير الأرض المغتصبة ، بسبب خطايا عسكر 23 يوليو. ومن الصدف العجيبة أن نجد دولة مثل الصين مرت من قبل بهذه الأزمة، حيث يحتفل جيشها في 30 يوليو الحالي بيوم الجيش الثمانين. وكانت الدولة تحتفي به في الماضي مثل اليوم الوطني، لأن الجيش هو الذي قاد حربا حقيقية على الاستعمار الغربي والياباني وعملائه في الداخل. وعندما دخل الجيش العاصمة بكين أول أكتوبر 1949 تحول إلى العيد الوطني للدولة، مع ذلك ظلت علاقة الجيش بالسلطة الشرعية علاقة تنفيذية، وهو الذي صنع من الدولة المفككة أمة قادرة على صناعة القنابل النووية والهيدروجينية، ومركبات فضائية للقمر والمريخ. لم نجد من هؤلاء من يطالب بأن يكون وزيرا أو رئيسا لشركة، لأنه يمارس مهام يكافئ عليها مثل باقي طوائف الشعب، ويترك أمر إدارة الدولة للساسة وقادة الحزب الشيوعي الحاكم. لم تعرف الفتنة طريقها إلى عسكر الصين لذا تقدمت، رغم أن خطواتنا في 23 يوليو 1952 كانت أفضل وأسبق منها إلى المستقبل. انشغل العسكر بالمناصب فتاهت الثورة، وخرجت مصر عن مسارها المرجو له.