أصبحت المادة الواحدة فى الدستور الذى تعكف على وضعه اللجنة التأسيسية للدستور مشكلة وأزمة كأن تاريخنا قد انقطع فى وضع دساتير لنا!، وأننا دولة تجرب للمرة الأولى أن يكون لها دستور مستقر ثابت تلتزم به السلطات التى تمثل ركيزة لا تتغول فيها سلطة منها على أخرى!، بل يكفل الدستور بعبارات محددة دقيقة ضبط اختصاصات كل سلطة، وينص الدستور كذلك على هوية الدولة وطبيعة نظامها السياسي، وبداية فإننى كنت مع الذين يرون أن لجنة تأسيسية لوضع الدستور الجديد كان ينبغى قصر عضويتها على المتخصصين فى هذا المجال، ولعل هذا كان يمكن له أن يعصمنا من أزمات ومشاكل ما كان أغنانا عنها، ونحن نجد فى كل مادة - هذا من المادة الأولى! - مشكلة يثور حولها الخلاف!، ولعل منشأ ذلك مرجعه إلى تشكيل اللجنة نفسها!، فهى تضم كل الأطياف والاتجاهات السياسية وخليط من المنظمات الأهلية والنقابية مما لا يتسع المجال هنا لاستعراضه بالتفصيل!، فإذا كان يعنى هذا عند البعض أن المجتمع كله ممثل فى هذه اللجنة التأسيسية!، فإنه لا يفوتنى أن أقرر أن هذا وحده قد كفل نمو بذور الخلاف حول كل مادة!، ولا يفوتنى كذلك أن الغلبة فى اللجنة لاتجاه سياسى معين بات مسيطراً على مقدرات الحياة السياسية وينتمى إليه رئيس الجمهورية بانتخابات عامة ورئاسية جعلت هذا التيار لا يرضى بأقل من أن يهيمن ويسيطر!، وفيه وإليه الكثير من السادة الذين ليسوا من المتخصصين فى الدساتير والقوانين!، بل أجد فيهم من يجتهد لكى تكون اللفظة الواحدة محل إشكال وخلاف!، مع أن لفظة مستقيمة محددة تقطع الطريق على أى خلاف! ولا يعنينى هنا أن اللجنة التى شكلت لوضع الدستور الجديد قد أصبحت محل دعاوى قضائية تطالب ببطلانها!، فهذا قد أصبح شأن كل ما ينشأ عندنا من ممارسة سياسية تنتهى إلى شكل مؤسسى!، ولكن الذى يعنينى بالدرجة الأولى هذه المباراة الخلافية الحامية حول استبدال ألفاظ بألفاظ!، والشراسة القتالية حول تفضيل لفظ على آخر!، وكأن مواد الدستور «موضوعات للتعبير والإنشاء البلاغى» احتشد لها من يتقنون اللعبة بالألفاظ والتفاصح، فلا تفرقة عندهم بين موضوع إنشائى أو خطبة نارية عصماء!، ولا تفرقة بين لغة مخاطبة الجماهير ولغة دستور ينص على ثوابت الأمة!، فها أن نصت المادة الثالثة على «شكل الدولة والمقومات الأساسية للمجتمع» على أن السيادة للشعب وحده، ويمارس الشعب هذه السيادة ويحميها ويصون الوحدة الوطنية»، ما أن نصت المادة الثالثة على ذلك حتى نشب الخلاف!، وتقدم عضو التأسيسية عن حزب النور باقتراح تعديل المادة على أن تكون «السيادة لله وحده بدلاً من الشعب، وأن يكون الشعب مصدر السلطات»!، وهذه عينة من الخلاف الذى يستنزف الوقت والجهد فى تأكيد ما هو مؤكد ولا خلاف لأحد عليه، فالسيادة على الكون كله لله سبحانه وتعالى، ودولتنا وشعبنا من هذا الكون، وشريعته السمحة تقر بوضوح بهذه السيادة للحق سبحانه وتعالى! وهل أتحدث عن المادة الثانية من الدستور فلم نفرغ منها إلا بعد مشاحنات ضارية حسمها الإمام الأكبر شيخ الأزهر فى بيان واضح لا لبس فيه، فقد كان الأمر قبل بيان الأزهر يكاد يتوقف تماماً عند هذه المادة الثانية!، وقد تلقت اللجنة 917 مقترحاً حول نظام الحكم والحريات العامة ومنصب شيخ الأزهر بالتعيين وكفالة الحريات العامة والحرية الشخصية وحرية الصحافة، والنص على أن تكفل الدولة حرية العقيدة وممارسة الشعائر الدينية، فكان للتيار السلفى اقتراح إضافة عبارة «بما لا يخالف شرع الله وما يتفق مع النظام العام». والنص على «أن تكفل الدولة حرية ممارسة الشعائر الدينية وحرية العقيدة للديانات الثلاث فقط»!، ولست أرى فى التأكيد على حرية العقائد وممارسة شعائرها غير تأكيد لما هو مؤكد!، لكن القصد مما أكتب أن على الذين يضعون دستور مصر أن يتقوا الله عندما يقررون المواد أو يختلفون حولها!، فمصر فى حاجة إلى دستور، وهى حاجة ملحة لا تحتمل إهدار الوقت فى الجدل الذى لا طائل من إثارته، ولا يجوز للدستور أن يكون محل محطات للتوقف والشجار وغلبة تيار سياسى على باقى التيارات!، فالمهمة أقدس بكثير وسامية إلى المد الذى يبتعد بها تماماً عن نوازع البلاغة والإنشاء!، وإلا ما انتهينا من المهمة!