كلما زاد عدد ضحايا عقارات حي الجمرك بالإسكندرية ازددت إصراراً علي عقوبة فورية - قبل عقوبة السماء - علي الذين تسببوا فيها وهم عديدون.. المالك الذي أقام برجاً من 11 طابقاً فوق أرض رخوة صغيرة المساحة ثم انهار فوق كل ما حوله وحتي قبل ان يمتلئ بالسكان. والمهندس الذي وافق علي منح التراخيص لهذه العمارة.. والمقاول الذي نفذ المبني.. وادارة الحي التي رأت الجريمة ترتفع تحت بصرها وكل ما فعلته هو تحرير محضر مخالفة، أو أصدرت قراراً بالازالة لم ينفذ.. وايضاً ادارة تنفيذ الاحكام أو الازالات التي دائماً ما تتحجج بعدم وجود قوة للتنفيذ.. أو أن الظروف السياسية لا تسمح بالازالة.. وان سمحت بالموت لا حول ولا قوة إلا بالله.. ثم رئيس الحي وصولاً إلي المحافظ الذي لا يحرك ساكناً.. هؤلاء كلهم وغيرهم مسئولون عن هذه الجريمة.. ومئات الجرائم التي وقعت وسوف تقع كل يوم.. لأن الجريمة مستمرة.. طالما اختفي الضمير الحي الذي كان يحكم حياتنا في الماضي.. ولكن ما هي العقوبة التي يستحقها كل واحد من هؤلاء؟! في رأيي - ولأن في القصاص حياة يا أولي الألباب - ان العقوبة هي الدفن تحت الانقاض.. ليس مرة واحدة، ولكن الدفن بعدد مرات الضحايا الذين دفنوا وراحوا تحتها.. حتي يعيش الواحد من هؤلاء المجرمين نفس لحظات صعود الروح ليعرفوا ان الله حق.. وحتي المحافظ عندما يعترف بأنه أصدر 50 ألف قرار إزالة ولكنها لم تنفذ.. يا فرحتي.. فما اسهل أن يوقع المحافظ كل هذه القرارات.. ولكن هل من الصعب ان تنفذ.. وماذا لو انهارت عمارة بجوار سكن السيد المحافظ هل كان يصمت ويكتفي بالتوقيع أم ينزل علي رأس قواته لينفذ ما أصدره من قرارات؟! وإذا كان هذا العقار قد سقط قبل ان ينتقل إليه السكان بكل الأحمال المرافقة لهم من موبيليات وأثاث ومعدات كهربائية.. فهل أقيم هذا العقار بأسياخ من صفيح أم ليس به أعمدة حديد تسليح.. ونحمد الله أن سقط العقار قبل ان ينتقل إليه السكان، إلا لانتقلوا إلي الحياة الآخرة!!. ولقد تابعت عمليات ازالة الانقاض.. ولم أجد عمود مسلح واحداً يستطيع أن تحمل سقفاً.. فأين كان المهندس الذي يراقب من الحي أو الادارة الهندسية.. أم كان هو وزملاؤه من «القابضين» ولقد كنت منذ ايام أمر بجوار كنيسة القديسين بالاسكندرية ومررت بالسيارة داخل زقاق، نعم زقاق.. ووجدت لافتة تتحدث عن عمارة من أرضي و10 طوابق وهالتني حالة الهيكل الخرساني للعمارة.. فلا تبني بوجود ما يكفي من حدة تسليح أو رمل «حلو» ليست به شوائب.. أو زلط تم غسله لازالة ما به من شوائب حتي تتم عملية شك الخرسانة كما يجب.. وصدمتني حالة اللا وعي التي رأيت عليها جيران هذا المبني.. وهم لا يدرون الخطر الدفين الذي ينتظرهم.. فهل تبلدت المشاعر، وتعودوا علي المخاطر.. واتذكر عندما كان المهندس، أو حتي المعلم الذي يبني بيتا يصر علي غسل الزلط وغربلة الرمل والتأكد من مطابقة كميات الاسمنت والحديد.. ولكن يبدو أن هذا زمن راح وولي.. وتذكرت عندما كان عندنا قانون لارتفاعات المباني الا يزيد ارتفاع أي مبني علي عرض الشارع وربع الشارع.. وعندما ارتفعت اسعار أراضي البناء سمحنا بأن تصل الارتفاعات إلي مرة ونصف المرة عرض الشارع.. وكان النظام يقضي بأن يترك كل مبني ثلاثة أمتار حول عقاره فراغاً والجار يترك مثله ليسمح بمرور الهواء حول المباني.. ولكن هذا زمن ولي وانتهي.. زمن ولي عندما ألغينا البلديات التي كانت تتبع وزارة الشئون البلدية والقروية قبل ان يصبح اسمها وزارة الاسكان والمرافق.. ولا أعرف - صدقوني - هل الادارات الهندسية الاحياء والمحافظات مازالت تابعة لوزارة الاسكان والمرافق «!!» أم هي الآن تابعة لوزارة التنمية المحلية أو الادارة المحلية لا اعرف.. وهل مازال يحكمنا قانون التخطيط العمراني وقوانين البناء كما كانت موجودة أيام مصلحة المباني العظيمة التي تركت لنا كل هذه المباني العظيمة. أم أن «عصر اكسب واجري» هو السائد منذ سمحنا بتجاوز كل ارتفاعات وأي ارتفاعات وبلا أي قوانين ما دام كل محافظ يكتفي باصدار قرارات الازالة.. ثم ينام خلفها. وصدقوني انني لست ضد محافظ الاسكندرية - ولكنني ضد أي محافظ وضد أي مسئول يكتفي بالتوقيع ولا يتخذ خطوة تنفيذية.. أم نحن في عصر الفوضي المطلقة التي تدمر كل شيء في حياتنا الآن.. هل يمكن سد حنفية الفوضي العارمة في كل شيء: في المرور وفي الاعتداء علي الارض الزراعية وفي هدم القصور والفيلات وفي رخص العشوائيات أم هي الفوضي المصاحبة للثورة.. والتي كان يجب ان نستغلها لتحسين اوضاعنا وليس حتي تسوء أحوالنا أكثر وأكثر.. أنا نفسي أري أن العقوبات الرادعة هي الحل وليس مجرد «الضبطية» علي كل شيء بدعوي «حتي لا ينفجر الشعب».. فهل نتوقع ان تسوء الاحوال اكثر من ذلك حتي نتحرك.. لقد انتهي «عصر الضبطية» وجاء عصر العمل.. ولا عمل بدون مكافأة من يجيد.. ومعاقبة من يخطئ.. ويجب ان تكون العقوبة صارمة ومنها معاقبة كل المسئولين عن جريمة عمارات حي الجمرك بالإسكندرية ولا نكتفي بوقف الترقية أو أي غرامات مالية.. بل العقوبة يجب أن تكون من جنس العمل: أي بالدفن تحت الانقاض فهذا وحده هو ما يوقف هذه المآسي المتكررة.. وفي الاسكندرية بالذات.