بعد تسليم المجلس الأعلى للقوات المسلحة في مصر مقاليد السلطة رسميا للرئيس الجديد الدكتور محمد مرسي، وبعد أن أقيمت مراسم التسليم العسكرية في مقر القيادة المركزية، وعقب أدائه اليمين أمام المحكمة الدستورية، ليكون بذلك أول رئيس منتخب يدخل مقر رئاسة الجمهورية بقصر العروبة، يدخل الدكتور مرسي، رئيس حزب الحرية والعدالة وعضو مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمين سابقا وإحدى القيادات السياسية بالجماعة، القصر وهو متعب ومرهق من الجولة الأولى فالثانية لانتخابات الرئاسة، بعد أن كان قاب قوسين أو أدنى من أن يخسر معركة الانتخابات الرئاسية لصالح الفريق أحمد شفيق. بعد يوم التنصيب الشاق الذي لم يترك في جسده طاقة، دخل الدكتور مرسي إلى القصر الجمهوري، خلع معطفه الرمادي الغامق وحل ربطة عنقه العنابية اللون، وأزاح نظارته الطبية لتستقر على المكتب أمامه، جلس على الكرسي الوثير واضعا ساعديه خلف رأسه وهو يسترجع شريط ذكريات الأيام الخوالي، سنوات السجن والنضال، وكيف أن سنة كونية إلهية قدرها الله تبارك وتعالى، وهي تعاقب الأيام ودورانها على العباد، وتقلب الأحوال فيها من علو إلى نزول ومن نزول إلى علو، واستدرك قوله تعالى: (وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ). أمال مرسي رأسه إلى الخلف في الكرسي الوثير وابتسم ابتسامة هادئة وهو يسترجع الأحداث الماضية وكيف أصبح السجين رئيسا لأهم دولة عربية، والرئيس المخلوع مسجونا. أغمض مرسي عينيه وهو يستذكر ما لمصر من مكانة عظيمة في الإسلام، فقد كرمها الله بذكرها في القرآن، فهي كنانة الله في أرضه. راح مرسي مستغرقا في الغد المشرق الذي ينتظر مصر وشعبها، وفي استغراقه الشديد ذاك، تراءت أمامه صورة رجل ورع تقي يشع وجهه بنور الصلاح والإيمان وهو جالس في مصلاه، سائلة دموعه، فدخلت عليه زوجته ذات الدين، فقالت: يا أمير المؤمنين، أشيء حدث؟ قال: يا فاطمة إني تقلدت أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فتفكرت في الفقير الجائع، والمريض الضائع، والعاري المجهود، والمظلوم المقهور، والغريب المأسور، وذي العيال في أقطار الأرض، فعلمت أن ربي سيسألني عنهم، وأن خصمي دونهم محمد صلى الله عليه وسلم، فخشيت ألا تثبت لي حجة عن خصومته، فرحمت نفسي فبكيت. لم يكن مرسي في حاجة إلى التفكير للحظة لكي يتعرف على أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز، كيف لا يعرفه وهو الخليفة الذي تمرس، قبل توليه الخلافة، بالإدارة واليا وحاكما، واقترب من صانعي القرار، ورأى عن كثب كيف تدار الدولة، وخبر الأعوان والمساعدين، فلما تولى الخلافة، كان لديه من عناصر الخبرة والتجربة ما يعينه على تحمل المسؤولية ومباشرة مهام الدولة، وأضاف إلى ذلك أن ترفع عن أبهة الحكم ومباهج السلطة، وحرص على المال العام، وحافظ على الجهد والوقت، ودقق في اختيار الولاة، وكانت لديه رغبة صادقة في تطبيق العدل، واستطاع أن يحول تلك المرحلة التاريخية الحرجة من تاريخ الأمة للعودة بالحياة إلى تحكيم الشريعة وآفاق الخلافة الراشدة الملتزمة بمعطيات القرآن والسنة. صاح مرسي: يا أمير المؤمنين، لقد انتشر الفساد في الأرض وعمت الفوضى، وأصبحت بقدرة الله حاكما على أرض الكنانة مصر، فما هي النصيحة؟ أمير المؤمنين: في أول لقاء لي بالأمة، خطبت الناس وأنا على المنبر، وضعت منهجا للحكم في أربعة مواضع. أولا: الالتزام بالكتاب والسنة، وأني غير مستعد للاستماع إلى أي جدل في مسائل الشرع والدين. ثانيا: حددت لمن يود العمل معي أن يكون عمله معي لخمسة أسباب، وإلا فليفارقني: أن يرفع عليه حاجة من لا يستطيع أن يصل إليه، وأن يعينني على الخير ما استطاع، وفرضت على من يعمل معي أن يرشدني ويهديني إلى ما فيه خير الأمة وخير الدين، ونهيت أن يغتاب عندي أحد، وأن لا يتدخل أي متقرب مني في شؤون الحكم. ثالثا: حذرت الناس من عواقب الدنيا لو أساءوا فيها، وطلبت منهم أن يصلحوا سرائرهم. رابعا: قطعت على نفسي عهداً بألا أعطي أحدا باطلا، ولا أمنع أحدا حقا. مرسي: ولكن زمانك يا أمير المؤمنين غير زماني، كثر الفساد، وظهر العناد، واستعلى المراد في كل شؤون ومناحي الحياة، فالمفسدون في الأرض ينشرون الباطل والإلحاد، ويدعون إلى الضلال ومخالفة الشريعة، والتنكر لها، ويعتقدون أن هذه هي شريعة العولمة الجديدة. أمير المؤمنين: يا عبدالله (مرسي)، لقد ظل الفساد في الأرض منتشراً في كل زمان ومكان، وبأنواع شتى مختلفة، منها المعاصي، والمخالفات لشرع الله، بارتكاب نواهيه وتعطيل أوامره (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ). عليك بالعدل وذلك بمنع الظلم وإزالته عن المظلوم، ومنع انتهاك حقوق الناس المتعلقة بأنفسهم وأعراضهم وأموالهم، وإزالة آثار التعدي الذي يقع عليهم، وإعادة حقوقهم إليهم ومعاقبة المعتدي عليها فيما يستوجب العقوبة، عليك برد المظالم وأن تبدأ بنفسك أولا، مهما كان الأمر صغيرا أو كبيرا، حتى تكون قدوة للآخرين. مرسي: لقد أنشأت ديوان المظالم، حتى غدت بوابات القصر مكانا لاستقبال شكاوى ومطالب المواطنين منذ تولي الحكم. أمير المؤمنين: جد في الأمر، واجتهد، ولكن يجب عليك أن تضع آلية للديوان حتى تستطيع أن تطبق النظام بكل شمولية ودقة من أجل استقامة دعائمه، وإلا فسوف تفشل في تحقيق الغاية. مرسي: يا أمير المؤمنين، لقد قامت الثورة في مصر من أجل الكرامة والحرية، ولكن الوضع الاقتصادي سيئ ومتدهور، فالثورة لم تكن فقط مجرد انتفاضة نخب سياسية ومثقفين، ولكنها كانت ثورة حقيقية نتيجة أزمة اقتصادية طاحنة. أمير المؤمنين: من أجل تحقيق التنمية الاقتصادية والرفاه الاجتماعي، عليك أولا أن تحافظ على أمن البلاد والعباد، ومن ثم تستطيع تحقيق الأهداف الاقتصادية، وذلك بتوفير المناخ المناسب للتنمية، وعليك برد الحقوق لأصحابها، وإطلاق الحرية الاقتصادية المنضبطة، ورفع مستوى الطبقات الفقيرة. عليك بأن تتبع خطوات ترمي إلى زيادة الإنتاج الزراعي، فمصر أرض خير وجنان. وعليك بالإنتاج الصناعي حتى تستطيع القضاء على البطالة، كما عليك تشجيع الاستثمار الصناعي تماشيا مع روح الإسلام الذي يحث على الاستفادة من العلم والحكمة في جميع الميادين، طاعة لله وخدمة للناس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها). مرسي: هناك نقطة هامة يا أمير المؤمنين، إن تطهير القضاء المصري ضرورة ثورية ومطلب شعبي، فكيف الوصول إليه؟ أمير المؤمنين: إن القضاء في الإسلام يا محمد، له تاريخ طويل في النزاهة والاستقلال، والتاريخ الإسلامي حافل بقصص رائعة للقضاء، حتى أن أحد القضاة في عهدي قد حكم مرة بإخراج جيوش المسلمين من سمرقند، التي فتحها قتيبة بن مسلم، من دون أن ينذر أهلها. وفي عهدي اشترطت في القاضي خمسة شروط، ولا يجوز له أن يلي القضاء حتى تكتمل فيه هذه الشروط، وهي: العلم، والحلم، والعفة، والاستشارة، والقوة في الحق. وإذا ما أردت قضاء نزيها، فينبغي عليك الإسراع في تنفيذ أحكام القضاء وعدم التباطؤ وتقصير الإجراءات في المحاكم وتعجيل النظر في الأحكام. مرسي: كيف استطعت يا أمير المؤمنين متابعة أمر الرعية وتصريف شؤون جميع الأقاليم في الدولة الإسلامية؟ أمير المؤمنين: كنت أمضي جل وقتي أرسم سياسة الإصلاح، والتي شملت مختلف مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والإدارية، عليك بالبطانة المعينة على الخير، التي توضح لك كل ما فيه المصلحة للدولة والشعب، وتكون بذلك قد أعانتك على تحقيق المصلحة العامة، وكنت أرسل المفتشين إلى الأقاليم ليتعسسوا ويبحثوا في أمور الناس وأحوالهم، فيأتوني بالأخبار والمستجدات. وعليك بمبدأ تقسيم العمل ومهام المسؤولية للدولة، فإن للدولة أركانا لا تثبت إلا بها، فالحاكم ركن، والقاضي ركن، والشعب ركن، والوالي أو الوزير ركن، فعليك بالوزراء الذين يعينونك على إدارة شؤون البلاد والعباد، ولقد سعيت في تحقيق السلامة من الفساد الإداري، بالحرص على سبل الوقاية منه، وسد المنافذ على المشاكل الإدارية مثل الخيانة والكذب والرشوة. مرسي: وماذا عن الحرية التي قامت من أجلها الثورة في مصر؟ أمير المؤمنين: لقد حرصت على تنفيذ قاعدة حرية الاعتقاد في المجتمع، وإقامة العدل ورفع الظلم عن الناس وعدم التضييق عليهم في معتقدهم ودينهم، انطلاقا من قوله تعالى: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)، وإطلاق الحرية السياسية والحرية الشخصية وحرية التجارة، فالحرية في المجتمع الإسلامي دعامة من دعائم النجاح والتقدم والرقي. مرسي: إن قضية التعليم يا أمير المؤمنين، من أهم القضايا الشائكة في الوقت الراهن، والتي تقف عائقا أمام التنمية الاقتصادية والبشرية. أمير المؤمنين: إن الهدف من التعليم في الإسلام هو زيادة علم المسلمين، مصداقا لقوله تعالى: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا)، فالتعليم يمثل نقطة الانطلاق السليمة والمحور الأساسي للدولة الإسلامية، لذلك أولاه الرسول صلى الله عليه وسلم مكانة عظيمة، لقوله صلى الله عليه وسلم: (طلب العلم فريضة على كل مسلم)، لما للعلم من مكانة عظيمة في إصلاح الشعوب وترقيتها، لذا فقد حث الإسلام المسلمين على الزيادة من العلم وتنميته. وعليك بالمعلم، لأنه حجر الزاوية في العملية التعليمية، بجانب التركيز على المنهج التعليمي، من أجل الوصول إلى الأهداف السامية، والتي تجمع بين الدين والدنيا. ومع انطلاق صوت الأذان من المسجد القريب من القصر، فتح مرسي عينيه، ورأسه مازالت تدور بها بقايا رحلة قصيرة بين اليقظة والأحلام والأفكار والهموم، من أجل غد أكثر إشراقا لأرض الكنانة، قام مرسي يتوضأ للصلاة وهو يردد مقولة أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز: إنما أنا رجل من المسلمين، غير أني أكثر المسلمين حملا وعبئا ومسؤولية أمام الله، كيف أنام وقد وليت أمر الناس وفيهم الفقير والجائع والمسكين والأرملة. إنه الاختلاف الكبير والبون الشاسع، لقد حكم عمر بن عبدالعزيز، فعدل، وعاش مرتاح الذهن والبال بين شعبه، لا بعيد عنهم، لأنه لم يكن يخشى إلا الله، ولم تكن الدنيا تساوي عنده مثقال ذرة من خردل. فهل يستطيع الدكتور مرسي أن يعيد لمصر مكانتها، وأن يرسم خارطة طريقها نحو دولة إسلامية عصرية، تتباهى بها كل الشعوب العربية والإسلامية؟ أم سوف تحل عليه لعنة الأسلاف تتبعها لعنات جيل الربيع العربي والتاريخ؟ نقلا عن صخيفة الشرق القطرية