فى فترة مخاض الثورة المصرية لم تكن هناك سلطة تنفيذية ولا تشريعية.. ولا تواجد أمنى ولا «يحزنون»، فقط كانت هناك نيابات ومحاكم تمارس عملها على أرض الواقع، ويمكن القول إن القضاء هو الذى كان يدير شئون «العباد» بعدما سقطت باقى أجهزة الدولة.. واليوم ربما نكون كسبنا رئيسا منتخبا للبلاد ولكن صدمتنا قد تكون أكبر لأننا على وشك خسارة صرح العدالة وحصن أمان المصريين بعدما أصبحت «فتنة القضاء» وللأسف هى عنوان المشهد السياسى الأخير. نعم كسبنا الرئيس ولكن هناك من يحزم حقائبه من المصريين والمستثمرين العرب والأجانب لمغادرة البلاد بلا عودة بعدما ارتفع صوت «شرعية الميدان» على صوت «شرعية القانون» وهذا معناه البقاء للأقوى ولا مكان أو أمان للضعفاء ولا وجود للدولة للعصرية ولو انتخبنا ألف رئيس فى ظل «شرعية الغاب». إنها الحقيقة المرة للمراهقة السياسية التى تسيطر على بعض التيارات الناشئة وراحت تشكك وتنهش فى عرض وشرف القضاء المصرى على مختلف مستوياته، بل إن المحكمة الدستورية نفسها لم تسلم من هذا الأذى الذى كان من نتيجته أيضا انتقال المعركة إلى داخل أجنحة السلطة القضائية وتبادل السهام بصورة لم تعرفها مصر من قبل، فعلى غير العادة خرج علينا تجمع «قضاة من أجل مصر» بإعلان استباقى لنتيجة الانتخابات الرئاسية قبل فحص الطعون، واعتبر بعض القضاة ذلك خروجا عن الحيادية المعهودة لرجال القضاء فى مصر، واتهموا أعضاء التجمع بمحاولة تشويه دور القاضى السامى فى إعلاء القانون. وفى المقابل نفى المستشار أحمد الزند رئيس مجلس إدارة نادى القضاة وجود صلة بينه وبين حركة «قضاة من أجل مصر»، التى عقد أعضاؤها مؤتمرًا صحفيًّا بنقابة الصحفيين، وأعلنوا خلاله نتائج الانتخابات الرئاسية، مشددًا على أن «النادى وحده هو الممثل الشرعى والمعبر عن جموع القضاة»، وأشار إلى أن مجلس النادى «سيتخذ جميع الإجراءات القانونية تجاه الحركة، وكل من يدعى أنه يمثل القضاة». وحتى يكتمل المشهد نظم العشرات من المتظاهرين، والنشطاء السياسيين مسيرة خرجت من ميدان التحرير واتجهت الى دار القضاء العالى احتجاجاً على قرار المحكمة الدستورية العليا بحل مجلس الشعب، علما بأن هذه الواقعة كانت قد حدثت من قبل فى برلمانى 87 و1990 وبنفس الطريقة ولنفس السبب، وإنما كانت المصلحة فيها للمستقلين ولجماعة الإخوان عندما حل البرلمان الذى كان يستحوذ الحزب الوطنى فيه على نصيب الأسد، ولم يجرؤ أى فصيل على انتقاد حكم الدستورية آنذاك. ومن توابع هذا الزلزال أن الجميع، داخل السلك القضائى وخارجها، يترقب الآن موقف الرئيس الجديد والبرلمان المرتقب من قانون السلطة القضائية، فهناك تيار المستشار أحمد الزند الذى يخشى ان تتم تصفيته بعد معركته مع برلمان الإخوان. على الطرف الآخر تقف حركة قضاة من أجل مصر والتى أسسها رئيس نادى القضاة السابق المستشار زكريا عبدالعزيز منذ قرابة شهر فقط والتى صادرت حق اللجنة العليا للانتخابات وأعلنت فوز الدكتور محمد مرسى بمنصب الرئيس، تقف هذه الحركة بأعضائها الثلاثمائة فى مفترق طرق على خلفية الانتقادات الموجهة لها من داخل جهاز القضاء بأنها أدت الى زيادة الأمر ارتباكا بين المواطنين ومثلت ضغوطا على اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية وهى تباشر اختصاصها فى نظر الطعون والتى تعد الجهة الوحيدة المنوط بها إعلان نتائج الانتخابات، بل وصل الأمر أن بعض القضاة يطالب بضرورة إجراء وزير العدل تحقيقات مع القضاة التابعين للحركة وعزلهم من مناصبهم لأنهم قاموا بإحداث فتنة بين القضاة بإقحامها فى أمر ليس من شأنها. وفى منتصف المسافة يقف فريق المنصفين من القضاة بعيدا عن تسييس المشهد القضائى لأن الخسارة ستكون من نصيب الجميع، سواء من يتواجد داخل هذا المشهد، أو من يوجه السهام له من خارجه، أو حتى من يكتفى بدور المتفرج. وما أشبه الليلة بالبارحة فمشهد اليوم يعود بنا إلى 29 مارس 1954، عندما تم الاعتداء على المستشار عبد الرزاق السنهورى رئيس مجلس الدولة الأسبق، بعد خلافه الشهير مع الرئيس المصرى الراحل جمال عبد الناصر، عندما حدث انقسام داخل مجلس قيادة الثورة آنذاك بين جناحين، الأول تزعمه اللواء محمد نجيب والذى كان يرغب فى تطبيق الديمقراطية وانسحاب الجيش من الحياة العامة والعودة إلى الثكنات، والثانى تزعمه عبدالناصر، ويتبنى فكرة تولى الضباط الأحرار السلطة وتحقيق الإصلاحات التى وعدوا بها الشعب فى هذا الوقت، وقد انضم السنهوري، الذى يوصف ب «فقيه مصر العظيم»، إلى الشرعية الديمقراطية والدستورية.. فانقلب عليه عبد الناصر وأطاح به، وبالطبع كان الخاسر الأكبر فى هذه الموقعة هو الشعب المصرى الذى رضخ لجموح الضباط الثوار ووقف متفرجا على مذبحة القضاء، فلا نال حريته ولا حافظ على ثورته؟!