منذ فترة طويلة.. وقبيل الثورة كنت أعمل على بحث له علاقة بفساد النخبة وطرق ضم المثقفين لحظيرة الدولة، وحين تعرضت لملف التوريث وكيف أن "منافقي السلطة" من المثقفين والكتاب المشهورين روجوا له، سمعت رواية لم أصدقها في حينها، ملخصها أن المخابرات وبعض قادة الجيش لديهم تحفظات - تصل للرفض القاطع من البعض - لمسألة التوريث، وقيل لي أن الرفض ينبع من كون "جمال" مدني صرف، ولم يتربي على قيم المؤسسة العسكرية ولا يمكن التأكد من مدى حرصه على الحفاظ على تقاليدها، لكن كون الوالد هو القائد الأعلى للقوات المسلحة فلم يكن لهذا الكلام مجال. انتهيت من بحثي، وأتت الثورة، وفاجئنا موقف القوات المسلحة التي تريثت في إبداء رأيها أولا، ثم اكتفائها بالمراقبة دون التدخل المباشر ثانيا بعد نزولها للشارع يوم 28 يناير ثم إعلانها في نهاية المطاف الانحياز للثوار واعترافها بالثورة. خلال الأحداث المتلاحقة ظهرت بعض التحليلات التي تقرأ وتفسر موقف القوات المسلحة والأسباب التى دفعتها لما أطلق عليه وقتها "حماية ثورة يناير"، وانتشر وقتها أن المؤسسة العسكرية تخوفت من سيطرة الثوار على مقاليد الحكم وتهديد مصالحهم ومصالح الحلفاء فكان لابد من استباق تطور الأمور، واختلفت أغلب الآراء والقراءات في وقتها لكن أهمها - في رأيي المتواضع - يمكن تلخيصه في سيناريوهين: الأول: أن القوات المسلحة رأت الحق مع الثوار، وأن الفساد الذي تفشى في السنوات الأخيرة من حكم المخلوع كان قد زاد عن الحد، خاصة بعد استحواذ رجال الأعمال - من أصدقاء الوريث - على مقاليد الأمور مما أصبح الأمر في تطوره يمثل خطورة على الأمن القومي وكيان الدولة، مما تسبب في وصول الأمر إلى ثورة شعبية لا يمكن السيطرة عليها وقد تتحول إلى حرب أهلية، الأمر الذي بدا وكأن الدولة تخوض حربا ضد عدو خارجي، ما استلزم تدخل فوري وحاسم للسيطرة وحسم الجولة بالضربة القاضية التي تمثلت في تنحي المخلوع وتفويضها بإدارة البلاد. الثاني: أن القوات المسلحة رأت في الأمر فرصة للتخلص من الوريث غير المرغوب فيه، إما لعدم اقتناعها بقدرات جمال مبارك التي رأته غير مؤهل لهذا المنصب الخطير، أو لعدم انتمائه للمؤسسة العسكرية، ولأنهم هم من يحكمون مصر منذ انقلاب 1952، من خلال جمال عبدالناصر، ثم أنور السادات، وأخيراً المخلوع حسنى مبارك، فكان من المستحيل - أو الصعب في ظل بقاء حسني في السلطة - أن تقبل بأن يحكم مصر شخص لا يرتدي البدلة العسكرية، وبالتالي يكون ولائه لهم، بغض النظر عن قدراته. بين هذا وذاك مرت أحداث كثيرة، وكان كل حدث يستدعي أحد السيناريوهين للحضور وتصدر المشهد بقوة في حين ينزوي الآخر، مثلا في البداية وحين كانت الأمور في مرحلة الشك بجدية الثوار لم تحرك القوات المسلحة ساكنا حين ذبح المواطنين على أيدي البلطجية في ميدان التحرير خلال يومي "موقعة الجمل"، وأذكر وقتها أنني ذهبت لأحد القادة الذي كان يراقب المشهد في مساء الليلة الأولى من خلف بوابة المتحف المصري، ووقتها كنا قد أعيينا من رمي الحجارة وطلبت منه أن يطلب من الجنود أن يتحركوا ليصعنوا حاجزا بالمدرعات بين الثوار والبلطجية، فقال لي لا يمكن أن نحجز بين المواطنين وبعضهم، هؤلاء جاءوا ليعبروا عن رأيهم مثلكم، قلت له انهم يقتلوننا، قال ليس لنا حق التدخل، قلت له تحرك من منطق الحفاظ على الأرواح ولا تنحاز لطرف، فلم يرد على، ولذا قابلته في موقف آخر بعد أن تمكنا من السيطرة على الميدان وطرد البلطجية، فقد توسعنا في الحاجز الأمني بعدها إلى ما بعد المتحف المصري - عند تمثال عبد المنعم رياض - جاء نفس الرتبة يطلب منها أن نعود بالحاجز إلي مكانه السابق - عند بداية المتحف - بحجة أن الجيش سيتولى تأمنيننا داخل هذا النطاق فكنت في مقدمة الرافضين وقلت له لقد خذلتنا في البداية فكيف نأمنك على أنفسنا إذا عدنا! نحن الآن في موقع استراتيجي ولن نتخلى عنه. -لكن هذا شأن آخر-. لكن يجب أن نعترف أننا لم نتعلم من هذا الموقف كثيرا، واستطاع المجلس العسكري أن يقنعنا بأن دوره يقف عند الحفاظ على الثورة من أعدائها والعمل على تحقيق مطالبها، حتى يسلم السلطة لمؤسسات مدنية منتخبة وأنه ليس لديه أي مطامع في السلطة، وفي هذا الاطار أجرى الانتخابات التشريعية وقتل الشباب في موقعتي محمد محمود والعباسية وغيرها. في هذه الأثناء، لفت نظري ما ورد في إجابة اللواء ممدوح قطب، المرشح السابق لرئاسة الجمهورية، عن سؤال وجه إليه من أحد المواطنين حول عمله بالمخابرات وعلاقة ذلك بترشحه، ومدي تأثير هذا في شعبيته خلال الانتخابات، فقالك ''من يعمل فى المخابرات، يعمل لصالح مصر وليس النظام، وخروجى على المعاش كان بسبب قناعاتى ضد التوريث'' - وهذا منشور في عدد من الصحف بتاريخ 10/3/2012. إذا فالشائعة لها أساس. أخذت أسترجع كل ما لدي من معلومات في هذا الشأن، وأدعمه بمعلومات جديدة، وأسأل بعض من له دراية واطلاع بمثل هذه الأمور، وتوصلت إلى عدة أمور أسردها عليكم ولكم حق التأمل فيها أو رفضها: إن المشروع الذى أعدته أسرة مبارك وبعض المنتفعين منهم وحولهم لتوريث مصر وضع المؤسسة العسكرية فى موقف متأزم ووضع لا تحسد عليه، وهو ما جعل أغلب من سألتهم يميل إلى استبعاد قبول العسكريين لهذا الأمر، ورفضها الحتمي، وهي في هذا لا تملك خيارا آخر، لعدة أسباب، الأول: أن المؤسسة العسكرية تعتبر نفسها صاحبة الانجاز التاريخي دون غيرها في نشأة الدولة المصرية الحديثة، وتخليصها من الاحتلال، وأن المدنيين لا يمكنهم الحفاظ على هذه المكتسبات. ثانيا: أن توريث السلطة يقوض دعائم النظام الجمهورى، ولأن العسكريين يعتبرون أنفسهم أصحاب الفضل فى تأسيسه بقضائهم على الملكية، فهم يرون أنه لا يمكن أن تكتب نهاية لهذا النظام الذي أسسوه بأيديهم، ولهذا - حسب هذا الرأي - فإنه كان من الصعب تقبلهم مشروع توريث السلطة، واعتباره مشيناً، وفي هذا السياق نشير إلى أحد تصريحات المخلوع نفسه الذي قال فيها: "إن مصر ليست سوريا". الأمر أو السبب الثالث: أن نقل السلطة إلى مؤسسات مدنية، يحرمها إلى الأبد من امتيازات عينية ضخمة وصلاحيات ومناصب تعودت عليها ولا يمكن أن ترضي بدونها. الرابع: أن المؤسسة العسكرية ليست لديها أدنى اعتراض أو مشكلة مع أي قائد عسكري من بينهم، إنما في الوقت نفسه هي لا تكن احتراما للمدنيين ولا تثق بقدرتهم وصلاحيتهم لقيادتهم وبالتالي قيادة بلد في حجم وأهمية مصر، ولهذا وعندما فشل المخلوع في مقاومة مشروع التوريث وأصبح اقرار وانفاذ الأمر ظاهرا للعيان، فكان من الطبيعى قبول قائدهم في السلطة ولو استمر فيها مدى الحياة، لكن كان من الصعب عليهم أن يقبلوا بتوريث سلطة الجيش إلى مدنى، حتى ولو كان ابنا لقائدهم الأعلى، وهنا يطرح البعض أن الابن لو كان عسكريا لاختلف الأمر! أخيرا، وإذا أخذنا في الاعتبار التحركات السريعة التي اتخذها المجلس العسكري خلال الأسبوعيين الماضيين لعلمنا مدى صدق السيناريو الذي يقول بأن المؤسسة العسكرية نجحت في استعمال الثورة في تصفية خصومها هي، وفي هذا تركت دماء زكية طاهرة خرجت من أجل الكرامة المصرية تسيل على التراب، وبررت لنفسها قتل الآلاف بدعوى أنها تحافظ على كيان الدولة وفي حقيقة الأمر هي تحافظ على كيانها ووجودها وبقائها وامتيازاتها التي لا يعرف مداها أحد، ولنا أن تأمل جيدا ما نصت عليه بنود ما سمي بالإعلان الدستوري المكمل ونص تشكيل مجلس الدفاع الوطني والذي يأتي غالبيته من أبناء المؤسسة العسكرية حتي تأتي قرارته معبرة عن طموحها وما ترتضيه. القراءة المتأنية للمشهد وللأحداث التي مررنا بها خلال فترة الثورة وبعد تنحي مبارك، يرجح كفة من يرى بأن المؤسسة العسكرية ساومت بدمائنا وطموحاتنا وأحلامنا وثورتنا، وهي الآن تضع النهاية المآساوية لانتفاضة شعب ضد القمع والفساد والظلم، وتأبى إلا أن تكون فوق الدولة، لا تريد التواضع والعمل كمؤسسة مثل باقي المؤسسات في الدولة توظف إمكاناتها وأفرادها حسب مصلحة البلاد والعباد، وتخضع لإرادة هذا الشعب الذي طالما أعلنت أنه مالكها. لكن الفرصة لا تزال سانحة لاثبات أننا على خطأ فيما ذهبنا وذهب غيرنا إليه، وأن هناك نية حقيقية من مؤسستنا العسكرية لتغيير المسار وقبول التغيير.