الوقائع المتعاقبة في مصر خلال الأيام الماضية كانت كفيلة بأن تملأ دهرا من الزمان ليصف المراقبون ما يجري بأنه دلالة حيوية، ومن المفارقات أن العديد من البشر تلقوا حكم المحكمة الدستورية بحل البرلمان "بالزغاريد"، لتخلصهم من كابوس خارج عنهم وهم الذين استحضروه بأيديهم، وكأنهم فرحوا بغفران من السماء لاختيارهم هؤلاء النواب ممثلين عنهم، وهم ذات البشر الذين تلقوا مؤتمر محمد مرسي فجر الإثنين والذي أعلن فيه محمد مرسي فوز محمد مرسي!، أيضا بزغاريد وجدتها تنطلق من شرفات منازل تحيط بمنزلي ومكالمات الفجر أنه كان يجب ألا يفوز شفيق. كابوسان انزاحا ولكن هل خلت الساحة من أشباه الثوار والسياسيين وأشباه المفكرين بل أشباه الرجال، حيث الرجولة صفة فارقة عن الذكورة؟ لا أظن. الثورة ليست رمية زهر على لوحة لعبة السلم والثعبان، وبما ينتجه الزهر من أرقام بحكم الحظ يمكن أن تصعد سلما يوفر جهدا، أو أن تقع بين فكي ثعبان يهبط بك للأسفل، الثورة أثابكم الله، علم، ودراسة لقوى مجتمع، وقدرة على توظيفها لرؤية ناتجة من المجتمع وليست مستوردة لينال المتحدثون بها رضا وتقديرا ولينحرفوا بالمجتمع عن احتياجاته، والثورة حالة من الصحة النفسية لا يُقَيَّم فيها الرجال بنوع تسريحة الشعر أو لون ربطة العنق، وليست مجرد ألسنة وهتاف دون أن نملك قدرة الحصاد لنتائج نريدها ويستخدم غير الثوار حماس الثوار ليصنعوا ثانية استحواذا جديدا على مجريات الأمور. استطاب الكثير هنا في أحاديثهم وكتاباتهم وصف أحكام المحكمة الدستورية بعدم دستورية قانون العزل السياسي وهو حكم يتيح لشفيق أن يستمر في انتخابات الرئاسة، وعدم دستورية قانون انتخابات مجلس الشعب بأنه انقلاب ناعم من المجلس الأعلى للقوات المسلحة للاستيلاء على السلطة، وزاد من دعم هذا الوصف قرار من وزير العدل بمنح رجال الشرطة العسكرية والمخابرات الحربية حق الضبطية القضائية، وهو قرار في مضمونه إعلان جزئي للأحكام العرفية، نرفضه نعم، ولكن أليس هناك من أعلن أن نجاح شفيق سيعني موجة من العنف؟، وإذا كانت الخفة أخذت بعقول المُحدثين في ممارسة السياسة إلى هذا الحد، أليس من الضروري أن تكون هناك محاولة لوقف هذا النزق؟. وشهدت مصر أيضاً صراعا محتدما حول الجمعية التأسيسية للدستور، وبلغت مناورات الإخوان فيها حد أن الطعون عليها بدأت قبل أن تجتمع، بل إنها كشفت أيضاً أن الإخوان لا يعنون ما يقولون وينحون إلى الإقصاء والاستحواذ وهم الأحوج إلى اصطفاف سياسي معهم في أمر انتخابات الرئاسة، ولكنه العجز عن قراءة الواقع المصري والكِبر وقاعدة الاستحواذ التي سيطرت عليهم. وكان غريبا أيضاً أن تخرج فتوى من الشيخ القرضاوي تبيح للناخب إذا عرضت عليه أموال مقابل صوته أن يأخذ الأموال ويعطي صوته لمن يشاء، وكأننا بدلا من أن ندعو إلى القيم بين شعبنا الفقير أو غير الفقير، نربيهم على قبول الرشوة. وكان من أثر الأحكام القضائية أن برز اتجاه يرفض أن يملك المعسكر الآخر كل الأوراق، وإذا كان البعض يعطي صوته لشفيق على مضض تخلصا من سيطرة الإخوان، فقد وجب مراجعة الموقف واتخاذ موقف مع مرسي ضد شفيق؟؟ هكذا وصل الحال في اتخاذ القرار، تأرجح صنعته قدرة المعسكر المعادي أو المناور على الثورة، وعجز وغياب معسكر الثورة، وصار الشعب هو من يدير المواجهة وأيضا ببطاقة التصويت الوسيلة الوحيدة التي يملكها. كانت الرؤية الأساسية في رفض كلا المرشحين، أنهما من المعسكر المضاد للثورة، أحدهما من النظام السابق، ومتهم في 34 قضية لم تحاول النيابة دراستها أو التحقيق فيها، والثاني من الجماعة التي تحالفت منذ قيام الثورة مع الإدارة الجديدة في مصر سواء في الاستفتاء أو صياغة قانون غير دستوري للانتخابات البرلمانية أو القبول بإعلان دستوري كانت عليه ملاحظات، وأخيرا بالموقف من الجمعية التأسيسية للدستور. وامتد تفسير الصراع بينهما أنه تنافس وأن مرسي إن نجح سيحمل "كفنه" ويسلم نفسه للمعسكر ذاته ممثلا في المجلس الأعلى للقوات المسلحة ويهديه فوزه. ويعلن المجلس العسكري إعلانا دستوريا مكملا، وتقوم دنيا الأصوات العالية رافضة!، عظيم أن تعلم ما لا تقبل، ولكن على الثوار أن يحددوا ما يقبلون، ولن أمل من تكرار أن أشباه النخبة وأشباه الأحزاب وأشباه المرشحين وأشباه الثوار رفضوا في أغلبهم اقتراحا هيكل رؤية البرادعي، وقبلوا اللعب بالقواعد التي وضعها البشري والإخوان والمجلس العسكري، ولي حول هذا الإعلان ما يلي: أولا: أن الإعلان حسم أمر العلاقة بين الدولة والجيش، بما يعني أنه في عقيدة المجلس العسكري في هذه اللحظة ليست هناك دولة مكتملة الأركان، أو دولة عاقلة متوازنة، يمكن أن يطبق معها ما تقر به العلوم والأبحاث في شأن العلاقة بين الجيش والدولة. وهنا اتخذ الإعلان أمرين: 1 عدم ترك قرار الحرب للرئيس المنتخب منفردا، بل يجب أن يكون القرار مشتركا مع المجلس العسكري. 2 أنه أضفى صفة الثبات والدوام على المجلس الأعلى بأشخاصه، وأنه وحده الذي يتصرف في كل ما يخص المؤسسة العسكرية، وتحديد وزير الدفاع والقائد الأعلى. كلا الأمرين مناقض للرؤية التي استقرت لتحديد العلاقة بين الجيش والدولة، ولكنها إن رآها البعض أنها انقلاب مطلق، فهي في الوقت ذاته اعتراف برخاوة الدولة، وانعدام يقين في قدرة القادم لمنصب الرئاسة، ومدى إدراكه للمسؤولية تجاه ما يقرر بشأن الحرب، أو ما يقرر بشأن الجيش ذاته. ولعل السادة الذين تعاملوا بخفة في أمر العلاقة بين الجيش والدولة، وحولوها إلى أحاديث أرصفة الشوارع والمقاهي، يدركون الآن أهمية الدعوة التي وجهناها لعقد مؤتمر وطني لتحديد هذه العلاقة وفق ما وصلت إليه العلوم السياسية والإستراتيجية عبر مئات السنين، بل وما وصلت إليه مصر في أعقاب حرب 1967 ونشرناه في هذا المكان، ولكل المعترضين في هذه اللحظة أقول: هل ترتفعون إلى مستوى الأمر وجديته، أم أنكم ستهتفون بسقوط حكم العسكر وأنتم لا تملكون بديلا؟. ثانيا: الجمعية التأسيسية للدستور وتولي المجلس العسكري أمر تشكيلها وحسب الوارد من معلومات، أن يكون ذلك وفق ما اقترحه المجلس الاستشاري ووافقت عليه القوى السياسية في أبريل الماضي، والذي خرجت بعدها اللجنة التشريعية بمشروع قانون، سكتت عنه، لتعود إلى مشروعها الأخير والذي أنتج من الانقسام أكثر من إنتاج جمعية تأسيسية تعبر عن القوى الوطنية والاجتماعية المكونة المجتمع، حيث صار المجتمع عندهم هو الإخوان والسلفيون، ثم ما يضاف إليهما. ولا أجد بديلا من هذا الأسلوب رغم ما ينطوي عليه من احتمالات خطر من ناحية أخرى، أنه سيصدر كقرار، وأيضا لا ناقض له إلا الدم، فهل يرتقي المجلس الأعلى للقوات المسلحة إلى مستوى الاحتياج الوطني ويفتح الباب على مصراعيه لتكوين هذه الجمعية دون إقصاء أو استحواذ؟. ولعله من الواجب مراعاة آلية التعامل مع الاختلاف داخل الجمعية التأسيسية حول مواد الدستور إن وجد اختلاف، وعدم الركون إلى المحكمة الدستورية، ولكن لتكن المحكمة الدستورية جزءا من جماعة الفقهاء الدستوريين التي يمكن الاحتكام إليها لحل أي اختلاف. ومن الواجب أن تتاح فرصة لحوار مجتمعي حول مسودة الدستور قبل الاستفتاء عليه، بل يجب أن يبدأ على الفور حوار حول التنمية والعدالة الاجتماعية، حتى لا يكون الدستور مجرد صياغات لا ترتكن إلى رؤية علمية تدرك مقدرات وإمكانات المجتمع، وتجمع الشعب على إرادة التنمية وأيضا تلزم المجتمع بمعنى مفهوم العدالة الاجتماعية، ليلتزم به كل من يتولى مسؤولية. وكذلك الأمر بشأن العلاقة بين القوات المسلحة والدولة، وضمانات صحتها لصالح المجتمع وفق معايير صحيحة، إن كانت الضرورة تؤدي إلى تجاوزها في اللحظة، فيجب ألا نفتح بابا ليتحول التجاوز إلى قاعدة دائمة لهذه العلاقة، لأنه يقوضها ولا ينشئها. ولعله يصبح من الواجب هنا أن نقول وبشفافية للمجلس الأعلى (الدائم وفقا للإعلان المكمل) للقوات المسلحة، إن مصالحة مع الشعب يجب أن تتم، وأهمية الإفراج عن المعتقلين والمحاكمين عسكريا لرفع حالة الاحتقان، وإعلان حقيقة المسؤوليات في وقائع ماسبيرو ومجلس الوزراء والقصر العيني ومحمد محمود وبورسعيد، بل إن المجلس يمكنه إن أراد أن يحدد من هم القناصة المسؤولون عن قتل المتظاهرين. ثالثا: أن الانتخابات النيابية التي تعقب إقرار الدستور يجب أن تقوم على قانون جديد، يتيح الفرصة المتساوية أمام الجميع للترشح وفق إمكانات متوسطة، وهو أيضا يستلزم مراجعة حالات الإفساد السياسي والفساد الوظيفي والمالي داخل المجتمع، سواء بقانون للعزل أو بقواعد تحكم الصحة السياسية والمجتمعية وفق معايير ما أنتجته الثورة من قيم، ويجب تقنين هذا الأمر على الأقل قبل انتخابات المجلس النيابي ومتزامنة مع إقرار قانونه، وهذا يستلزم إرادة سياسية قبل الصياغة القانونية، وإلا فما شرعية كل ما صدر في الإعلان التكميلي إن لم يكن محاولة جادة لتصحيح مسار 16 شهرا مضت، وإنه محاولة لنصرة الشعب الذي تحمل عبء الثورة والشهادة وضريبة الدم والصبر. وتؤكد نتائج مرحلتي انتخابات الرئاسة، ورغم تزاحم متغيرات اللحظات الأخيرة، أن الشعب يتدبر أمره فيما أراده بثورته، وهو يدير معركته بذاته وبالآلية المتاحة أمامه وهي التصويت، رغم كل ما يقال عن العصبيات والقبلية والعائلات الحاكمة وأصوات القرى التي يملكها عمدة القرية. القراءة المباشرة للأرقام وفق ما أعلن تؤكد أن الشعب، ورغم الفارق البسيط الظاهر بين المرشحين، لن يقبل بإعادة إنتاج نظام مبارك، كما أنه لن يقبل باستبداله بنظام مستبد جديد تحت عباءة الدين. الأصوات التي ذهبت إلى مرسي ضد النظام السابق الأصوات الباطلة (750 ألفا)، والممتنعون عن التصويت، ضد كل من النظام السابق والإخوان. والأصوات التي حصل عليها شفيق بسبب رفض أداء الإخوان والتخوف من غموض نواياهم. الحديث عن إمكانية إعادة إنتاج النظام السابق هو فزاعة يجري إرهاب الشعب بها، ولكن ذلك لا يعني عدم غياب رؤية للثورة تحدد النظام الذي تريده، أو آلية تجمع عناصر الثورة وتتخلص من الذين يتعايشون على الثورة دون إضافة مسؤولة حول كيف نحقق الأهداف التي نلوكها بالقول وفقط. بإعلان نتيجة الانتخابات لن ننتقل إلى مرحلة جديدة، ولكننا نعود إلى قبيل استفتاء مارس 2011، محملين بكل دروس الفترة الانتقالية، ومواقف القوى والجماعات والأشخاص. ترك المجلس الأعلى للقوات المسلحة حبل الطموح والجشع للإخوان على سجيته، فالتف حول رقبتهم، والسؤال بعد جملة وقائع الأسبوع الماضي والإعلان التكميلي، هل أدرك الإخوان الدرس؟. إن إدراكهم للدرس يتطلب بالأساس انقلابا في المفاهيم السياسية داخل الجماعة وعلاقتها بالمجتمع إن لم تتعرض لحكم بالحل في القضية المنظورة اليوم الثلاثاء أمام القضاء الإداري وتغير المفاهيم ربما يتطلب تغييرات في القيادة، وكلاهما أمر مستبعد تحققه بالسرعة الواجبة بما يواكب الاحتياج الوطني، والأغلب أنهم ذاهبون إلى توافق جديد مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة وفق التغيير الذي جرى على الموقف التفاوضي بينهما. والمجلس العسكري مطالب بأن يعيد قراءة المطالب الشعبية التي أعلن عن تفهمه لها، والتي تتمثل في العيش الحرية العدالة الاجتماعية، وعدم قصرها على إنهاء مشروع توريث الحكم، وتجاوزه إلى مواجهة الفساد وإعادة البناء لدولة عصرية بما تحمله الكلمة من معان، وبكل الشعب. سواء استوعب الإخوان أو المجلس الأعلى للقوات المسلحة، دروس المرحلة الانتقالية أو تجاهلوها وظلوا أسرى رؤاهم الخاصة، فإن الشعب الآن أمامه مهمة بناء كيانات جماهيرية منظمة، وأن يدرك ضرورة الفرز وأهميته، وأن السعي إلى دستور يحقق له أهدافه، وانتخاب مجلس نيابي جديد يفرض على عناصر الثورة الحقيقية بعد الفرز وأن تدعم من تختار وأن تنتج بديلا ملائما للمعروض عليها من أشخاص. هكذا عادت المبادأة إلى الشعب فهل يستوعب الجميع ذلك؟ نقلا عن صحيفة الشرق القطرية