لم تكن شعارات ثورة 1919 مجرد هتافات جماهيرية، فخلال أحداث هذه الثورة ظهرت شعارات ما زالت تتردد حتى الآن، و لو طبقها المصريون لكانت بمثابة دستور حياة للمصريين جميعا، إبان ثورة 25 يناير وما بعدها من أحداث كانت شعارات ثورة 1919 حاضرة، بل إن مشهد المشايخ والقساوسة متكاتفى الأيدى استلهمه المصريون من ثورة 1919، وشعار يحيا الهلال مع الصليب ما زال حيًّا فى قلوب المصريين، أما شعار الدين لله والوطن للجميع فلابد أن يصبح هو الدستور الفعلى للوطن. رفعت ثورة 1919 عدة شعارات ما زالت خالدة حتى يومنا هذا، فقد كان الاحتلال الانجليزى يلعب على وتر التفرقة بين المصريين منذ احتلاله لمصر عام 1882، محاولين إحداث فتنة طائفية بين عنصرى الأمة بلغت أوجها عام 1911 حتى بلغ الأمر إلى الحديث عن تقسيم البلاد واقامة دولة للمسيحيين فى الجنوب و أخرى للمسلمين فى الشمال، وتحت زعم حماية الأقليات أعلنت بريطانيا الحماية على مصر عام 1914، ونظرا لظروف الحرب العالمية الأولى هدأت الأوضاع الداخلية، وبعد انتهائها طالب سعد زغلول بالسفر إلى باريس لعرض مطالب مصر أمام مؤتمر الصلح، إلا أن المعتمد البريطانى رفض وتم إلقاء القبض على سعد زغلول ليكون ذلك الشرارة التى اشعلت الثورة، ليبدأ المصريون فى التعبير عن غضبهم مرددين شعارات أهمها «سعد سعد يحيا سعد»، «يحيا الوفد ولو فيها رفد». وفى كتاب «هتافات الثورة المصرية ونصوصها الكاملة»، الصادر عن المجلس الأعلى للثقافة، عرض الدكتور كمال مغيث، للهتافات المصرية كنمط من أنماط التعبير الاجتماعى والسياسى للشعب المصرى، ويقول مغيث فى مقدمة كتابه إنه اعتمد على الوثائق فى جمع الهتافات التاريخية، وجمع هتافات المتظاهرين فى الميادين فى ثورة 25 يناير بنفسه. وأفرد الكتاب فصلا للحديث عن ثورة 1919 وشعاراتها كما قدم عرضا للسمات المختلفة، ولغة الجسد للمحتجين والمتظاهرين وصفاتهم والمظاهر التى استقوا منها هتافاتهم. يذكر أن ثورة 1919 شهدت مولد شعارات «الاستقلال التام أو الموت الزؤام» أى الموت السريع، بالاضافة إلى الشعارات المؤيدة للزعيم سعد زغلول وأشهرها سعد سعد يحيا سعد، ولما كانت سلطات الاحتلال الانجليزى تواجه المظاهرات بالعنف والقوة، لم تخل شعارات المصريين من سخريتهم المعتادة فراحوا يغنون «يا بلح زغلول حلو يا بلح». ولما كانت ثورة 1919 هى المثال الحى المتجسد لوحدة المصريين فقد ظهر فيها ولأول مرة شعار «يحيا الهلال مع الصليب» والذى أعاد اليه المصريون الروح إبان أحداث ثورة 25 يناير وما بعدها، أيضا ظهر شعار الدين لله و الوطن للجميع وكلها شعارات تؤكد احترام المصريين لمفهوم المواطنة قبل أن يعرفه المدافعون عن حقوق الانسان بسنوات طويلة. وتعبيراً عن رفض المصريين لتصريح 28 فبراير الذى أعطى لمصر استقلالاً ناقصاً جاءت هتافات المصريين معلنة «يسقط الاستعمار» «يسقط الاحتلال» «عاشت مصر حرة مستقلة». كما ظهرت شعارات تؤكد على وحدة كل فئات الشعب المصرى حيث ظهر شعار «عاش الطلبة مع العمال» وهو ما استلهمه المصريون ابان احداث ثورتى 25 يناير و 30 يونيو من رفع شعارات «الجيش و الشعب ايد واحدة». ولما كانت شعارات المصريين ليست مجرد شعارات جوفاء فقد ترجموا هذه الشعارات إلى واقع حقيقى حيث تحققت شعارات المواطنة جلية ابان الثورة بمشاركة المصريين جميعا فيها، ثم تجلت هذه الشعارات واقعا ملموسا حينما راح القمس سرجيوس يلقى خطبه الحماسية من الجامع الأزهر، واستمر على إلقائها لتحفيز الشعب لمدة 59 يوما متتاليا، وكانت هذه الخطب سببا فى نفيه إلى رفح بسيناء. وأوضح الدكتور محمد عفيفى أستاذ ورئيس قسم التاريخ بجامعة القاهرة فى كتابه «الدين والسياسة يا مصر المعاصرة» أن السلطات البريطانية عندما منعت المظاهرات فى الميادين العامة لتحد منها، زحفت الجماهير إلى ساحة الأزهر الذى أصبح ساحة للحرية يتردد فى رحابها صوت الآذان مع المطالبة بالاستقلال، ولم تستطع قوات الاحتلال اقتحام الأزهر واكتفت بمحاصرته، وتطور الموقف، وهنا سمح الأزهر بدخول رجال الدين المسيحى فى مظاهرة مهيبة ليلتحموا بالجماهير ويخطب القسيس ويقول «مبارك شعبى مصر»، وكان من أهمهم فى هذا الوقت القمص سرجيوس». وأضاف أن المشهد انتقل بعد ذلك إلى الكنيسة المرقسية بمنطقة كلوت بك بالقاهرة، حيث استضافت الكنيسة شيوخ الأزهر ليقفوا فى ساحة الكنيسة مرددين الشعارات وكان من أبرزهم الشيخ مصطفى، وأمام هذا المشهد المهيب فشلت بريطانيا فى سياستها القديمة فى تفريق المصريين، ولجأت لأسلوب الاعتقال حيث اعتقلت زعماء الثورة من رجال الدين المسيحى وشيوخ الأزهر، حتى أن الكنيسة أرسلت «تلغرافا» إلى السلطان أحمد فؤاد تستنكر فيه الاعتقال وتطالب باسم الأمة المصرية التدخل لاحترام هيبة رجال الدين وسرعة الإفراج عنهم، وتم بالفعل الإفراج عنهم ليعودوا ويحتفلوا مع الجميع بنجاح الثورة المصرية ويصبح مشهد« القسيس والشيخ» مشهدًا يتكرر بعد ذلك فى أوقات الأزمات المصرية لأنه هدية الثورة ليس فقط للشعب المصرى ولكن للإنسانية كلها. هكذا وجدت شعارات ثورة 1919 صدى على أرض مصر وتحولت إلى واقع يجب أن يدرس، وبعد ذلك بسنوات طويلة راح المصريون يرددون نفس هذه الشعارات فى إبان ثورتى 25 يناير و30 يونيو ولكن بلغة القرن الحادى والعشرين حيث ارتفعت هتافات ايد واحدة، وتعانق الهلال والصليب مرة أخرى فى مشاهد مهيبة لا تغيب عن الأذهان مؤكدة أن وحدة المصريين ستظل دائمة وأنهم فى رباط إلى يوم الدين.