بقلم: معتز محسن عزت عند قراءتي للمجموعة القصصية (رغبة) للصحفية والقاصة سمية عبدالمنعم وجدت نبضات يراع الأنثى في استشفاف بعض القضايا الغائرة التي تحيط بالمجتمع عبر نصفها الآخر مما يستوجب العلاج الفوري في مجال القصة القصيرة الذي يعد فحصًا أوليًا لآلام المجتمع قبل الخوض في تشريح الأمراض تفصيليًا عبر الرواية. تعتبر القصة القصيرة حقلاً ثريًا في عرض المشكلات المجتمعية بطريقة مختصرة تعطي الفحص المبدئي لكل الحقول المعرفية و الإنسانية، كي يضعوا نقاط الضوء لإزاحة السلبيات و التحفظات في جسد المجتمع الذي يتحرك من خلال تروسه ألا وهم البشر. نستشف من أول قصة حتى آخر قصة الهم الذي يحيط بعقل سمية عبدالمنعم عبر سليقتها الصحفية حيث لا فرق بين القصة و الريبورتاج الصحفي لربطهما عبر الأسلوب التلغرافي في عرض المعلومة، فالقصة تعرض العمل الإبداعي بالشكل المختزل حسب الموقف الفوري. الريبورتاج الصحفي أيضًا يسير على نفس النهج عبر النقل المفصل من الواقع إلى الورق لحظة بلحظة وخطوةً بخطوة. إن أردنا أن نلخص المجموعة في عنوان جامع للربط بين القصص المتناثرة كالجسد الواحد، فلا يوجد أنسب من أن نضع كلمة (الصرخة) حيث تبدأ باستكشاف الألم ثم إطلاق الصرخات المدوية عند الاصطدام بالمشكلة العميقة التي تعبث بأناملها في تفاصيل قلب الأنثى. هذا ما لمسته في قصة (النظرة الأخيرة) حيث لم تنسى الكاتبة، الأزمة السورية التي لم نعرف لها ملامح حتى الآن لتطاحنات أطراف الصراع الغائرة، مما أضفت على القصة هذه التفاصيل العميقة في القضية السورية من خلال تضرع الأم بالدعاء لعودة (إياد) ابنها المفقود إلى حضنها الظامئ لدفء الأمومة المتأزمة في ظل هذا الصراع المرير مع تتبع الابنة طالبة الطب التي تعاني الاضطراب المزدوج ما بين كثرة تشريح الجثث في علم التشريح مع مداعبة القلق لها في أن تفاجأ بما لا يحمد عقباه. تظل القصة متتبعة لإغماءات الطالبة في محاضرات التشريح بالمستشفى و كأنها بروفة للمفاجأة المنتظرة، إلى أن يأتي الدور على اللحظة المرتقبة باكتشافها الجثة الجديدة القابلة للتشريح لتفاجأ بجثة أخيها إياد ليغمى عليها و تُحمل بين أذرع زملائها لتتذكر في تلك اللحظة بحبكة الفلاش باك دعاء أمها، بعودة الابن الذي عاد فعليًا و لكن على ظهره لتعبث به أصابع أطباء الغد. تتكرر الحبكة المأساوية ولكن هذه المرة في مصر في قصة (لوعة الفراق) حيث التفجيرات المتعددة للكنائس في سنوات مصر الأخيرة جراء الإرهاب البغيض حيث تترقب القصة خطوات قلق الأم عند وقوفها أمام جثث خمس تخشى أن يكون من بينهم ابنتهما، لنرى مواساة الطبيب لتتماسك عند اقتراب الصدمة التي وقعت بالفعل عند كشف الغطاء عن الجثة الرابعة لتصرخ قائلة: آآآآه يا مارينا. تتكاتم الأنفاس مجددًا عند الاقتراب من الجثة الخامسة لتتجدد الصيحات قائلة: ابنتاي... الاثنتان معًا ... الاثنتان ... لماذا ... لماذا ؟ تختم القصة بابتعاد الطبيب تدريجيًا وهو دامع العينين لتضع الكاتبة بأناملها هذه الوثيقة الختامية الإنسانية قائلة: ابتعد عنها في بطء ووقف بجوار الباب و دمعت عيناه بينما أخذ صراخها يعلو و بين ضلوعها تنتفض لوعة أهل الأرض جميعًا. تكتمل التابلوهات الصارخة في قصة (زبيدة) التي تصلح مستقبلاً كرواية لتكشف لنا المخفي عنه في قصة (زهرة رشيد) زبيدة التي تزوجها الجنرال (مينو) الذي ادَّعى بدخوله الإسلام ليتزوج من تلك الجميلة الرشيدية، كنوع من المماطلة السياسية لإكمال الحلم النابليوني بغزو الشرق عبر المصاهرة والسياسة والتخطيط العسكري. برعت الكاتبة في رسم الشخصيات من خلال القراءة العميقة لقصة (زبيدة) باختيار لحظة درامية من قصتها الثرية المفجعة حيث الجري وراء السراب بوصفه حلمًا ورديًا و هي تحمل ابنها في منفاها بإيطاليا، لترى الزوج المخادع يرفض مناداتها له بعبدالله قائلاً لها: (مينو) .. اسمي (جاك مينو) ... لا تناديني باسم غيره ... أفهمتِ؟ قطبت حاجبيها في دهشة متسائلة: ماذا تعني ... هل ارتدت عن الإسلام و عدت إلى دينك؟ أطلق ضحكة ساخرة اهتز لها جسده الممشوق و قال في جذل : أنت لا تفهمين شيئًا عن أصول اللعبة. ثم استطرد و قد لمعت عيناه: و أصول الحكم .. نخرج من تلك القصة بأن ما حدث في الماضي يحدث الآن حيث طعمت الكاتبة ذلك الإحساس المتفجر في قلوبنا جميعًا عبر قصة (النظرة الأخيرة) و قصة (زبيدة) التي وجدنا في ملامحها عناصر السيناريو بالعملية الاسترجاعية في سبب زواجها من مينو إلى الاصطدام بمرارة الواقع بين جنبات الغربة في إيطاليا و ابنها يحتضر بين يديها حيث يذبل الأمل المتبقي لها مع ذبول نضارتها كالزهرة الذابلة. تتوالى الصيحات و الصرخات حتى من حنجرة الرجل المخدوع من أعز الناس لديه في قصة (الخائنان) من خلال علاقة زوجية تعاني الجفاء و البرودة فيحاول الزوج أن يعرف ما السر في هذا التجمد الوجداني الذي يفسد على العلاقة الحميمية، لتشركنا الكاتبة عبر راويها العليم الخفايا المسببة لتلك المنغصات لنفاجأ بالخديعة الكبرى من صديق الزوج المخدوع الفيروس المسبب لهذا الوهن الإنساني، ليرى في قتله له الشفاء الناجي كي تعود الشمس مجددًا للحياة الزوجية التعيسة بقول أحمد عند جره لجثة سعيد: الآن فقط يمكننا أن نتزوج يا حبيبتي. لعبة الريبورتاج الصحفي نضحت على تلك القصة في لمحة بديعة مؤكدةً على وحدة القالبين في بوتقة واحدة. هذه الصرخات العالية في أواخر القصص كانت بدايتها في أوائل القصص أيضًا على نفس الدرجة حيث تعمدت الكاتبة عبر راويها العليم أن توحد الصرخة كظل موحد حتى لو اختلفت المواضيع بل يظل مصبها واحدًا ، ألا و هي نية التغيير للأفضل. في قصة (الكشك الخشبي) نعتقد من العنوان بأننا أمام صندوق الدنيا المليء بالعجائب و الحكايات و الحواديت كما كان يحدث في القرى المصرية، حتى في ظل اصطفاف البنات أمامه و الطفلة تسأل الأم عن سبب الزحام ليأتي الرد بابتسامة مغلفة بقولها: عقبالك يا بنتي. نعتقد هنا بأنها مقبلة على الغوص في عالم الأحلام و لكن عند اقتراب الموعد المنتظر، نرى هنا أن الأحلام تحولت إلى كوابيس مفزعة حيث الختان الذي لا زال شبحًا مقلقًا لبنات القرى، لرسوخ التقاليد البالية التي يعتقد الجميع بأنها تحصن من الرذائل و ما هي إلا فضائل زائفة توقع بالبشر كالتنويم المغناطيسي إلى ما يخشوه في الأيام القادمة. على نفس الوتيرة نرى قصة (الخروج) التي تصرخ في وجه التقاليد القروية التي عفا عليها الزمن في الحكم على الآخرين بالظاهر، مما يصيب البشر بالشك الدائم في كل ما يفعلوه حتى و لو كان صائبًا لوجود مقصلة التقاليد الصارمة المفتقدة للعقل و التي خرَّجت لنا العقول المتطرفة على مدى عقود مديدة، نتجرع من مراراتها حتى الآن. قدمت لنا الكاتبة بعض الومضات القصصية ما بين القصة القصيرة جدًا و الأقصوصة أي الومضة الصحفية الفنية التي لا تحتاج إلى لغة الحوار أكثر من لغة التعبير في صور قصصية مكتنزة كما قال المثل الصيني: رُب صورة تغني عن ألف كلمة. في قصة (صورة) كان أسلوب السرد السينمائي واضحًا عند عودة البطلة لصورة الجامعة و التي جعلتها تنتحب لمقارنتها البصرية بين أمسها و يومها إلى أن تذكرت في ظل زفراتها الحارقة موعد وصول زوجها لتعيد الصورة إلى ثنايات أدراجها لنخرج من تلك الومضة السينمائية القصيرة بحكمة تقول: الحنين لا يولد إلا الآنين. أدعو القراء الأعزاء لقراءة تلك المجموعة المميزة التي كتبتها سمية عبدالمنعم الجامعة بين الموهبة القصصية و الخبرة الصحفية من خلال لغتها الوسطية و الحبكة المتقنة التي تعدها مستقبلاً للكتابة الروائية.