ضمن الأخبار التى نشرتها الصحف، عن وقائع مليونية «الإصرار» التى انعقدت الجمعة - 8 يونيو - لم تهتم معظم الصحف بالخبر الذى أثار اهتمام الكثيرين من المعنيين، بالحفاظ على سمعة الثورة الناصعة، وعلى مكانتها لدى جماهير المصريين، الذين لولا تعاطفهم الإيجابى والسلبى معها وتأييدهم العملى والقلبى لما رفعته من شعارات، لما نجحت فى تحقيق ما حققته من أهدافها، ولما استطاعت أن تواصل النضال من أجل تحقيق ما تبقى من هذه الأهداف، أو مواجهة ما قد تتعرض له من مخاطر بدأت ملامحها تظهر فى الأفق. أما الخبر فهو يتعلق بالمسيرة التى نظمتها مجموعة من الناشطات الحقوقيات والسياسيات، ممن تعودن المشاركة فى فاعليات الثورة وفى المليونيات السابقة، دفاعا عن الشعارات التى ترفعها، لكنهن هذه المرة قررن أن يقمن بمسيرة نوعية، ضمن فاعليات جمعة «الإصرار»، يلفتن فيها الأنظار، إلى أن هناك من يندسون بين جماهير تلك المليونيات، ممن ليس لهم صلة بالثورة، لأن هدفهم الأساسى هو التحرش الجنسى بالمحتجات، واستغلال التزاحم الذى تشهده المليونيات، لممارسة أشكال من الانحراف الجنسى، لا صلة لها بالثورة، ولا بأبسط السلوك الأخلاقى أو التهذيبى! وكانت البداية تقرير نشرته صحيفة «الوشنطن بوست» الأمريكية، عن وقائع تحرش بصحفيات أوروبيات ومحتجات مصريات داخل ميدان التحرير، والتقطت منظمة «الاتحاد النسائى المصرى» التقرير وحققته وأصدرت تقريرا مفصلا، كشفت فيه لأول مرة عن ان مثل هذا السلوك المعيب تكرر حدوثه منذ فترة ليس بنسب قليلة فى المليونيات التى يقيمها الثوار، وأن معظم من كن يتعرضن له، كن يفضلن عدم الشكوى منه، أو الإفصاح عنه، أو الاحتجاج علنا على ما يتعرضن له، حتى لا يستغل ذلك للإساءة للثورة، أو للتنفير من المشاركة فى المليونيات، أو يدعو النساء فى المليونيات للانسحاب منها، أو يدعو الآباء والأمهات والأزواج لمنع بناتهن وزوجاتهن من المشاركة فى أعمالها. ولكن استمرار الظاهرة، وتصاعدها، وعجز منظمى المليونيات عن وقفها، دفع منظمة «الاتحاد النسائى المصرى»، التى كانت تتلقى شكاوى كثيرة من هذا السلوك، وترصد مظاهره، الى إصدار بيان تحذر فيه من استشراء هذه الظاهرة، وتدعو الى اتخاذ موقف حاسم ضدها، وهو البيان الذى استندت اليه ناشطات لهن صلة بالموضوع، وقررن إقامة المسيرة التى ضمت قرابة مائة امرأة، فى مراحل مختلفة من العمر، وأعمال متفاوتة، تشمل ربات بيوت، واساتذة الجامعات، واعلاميات وصحفيات، ومهنيات، وطالبات بالمدارس الثانوية والجامعات... إلخ رفعن لافتات تهتف بسقوط التحرش الجنسى، وتدنى الذين يمارسونه من الرجال، وتطالب بحماية الثورة من المتحرشين. وخرجت هذه المسيرة، فى حماية طوق من النشطاء، ينتمون الى مختلف الأعمار والمهن، واخترقت صفوفها، الحشود التى كانت تزحم الميدان ، يوم جمعة «الإصرار»، وبعد فترة وجيزة جمع المتحرشون أنفسهم من أطراف الميدان، وقاموا بحملة هجوم مضادة، فككت طوق الحماية، وأخذت تمارس عملية التحرش اللفظى والبدنى بشكل جهرى، وفى حماية ما كانت تحوزه من أسلحة بيضاء وعصى، وما تملكه من وقاحة وفجر. وبدأت المطاردات داخل الميدان، وامتدت الى الشوارع المتفرعة منه، ومنها شارعا محمد محمود وطلعت حرب، لينضم الى المتحرشين صفوف أخرى من الذين زعموا أنهم جاءوا ليساندوا الثورة. ولأن الأعداد كانت كبيرة، ولأن سلطات الأمن تنسحب فى كل مليونية، من داخل الميدان، ومداخل الشوارع المحيطة به، فقد وجد الضحايا أنفسهن فى مأزق، اضطر بعضهن للجوء الى المحلات التجارية، واستخدم بعضهن ما توفر لهن من قوة جسدية أو لفظية لرد هذه الغارة الهمجية، حتى استطعن النجاة من الحصار، والانصراف الى بيوتهن. وحتى لو كانت الشرطة موجودة فى الميدان، ولا تزال فى كفاءتها، فقد وجدت دائما صعوبة فى حماية ضحايا التحرش الجماعى من النساء، لكثرة عدد المتحرشين، واحتمائهم ببعضهم البعض، والموقف السلبى الذى يأخذه الجمهور عادة من هذا السلوك، والذى ينحو فى الغالب، الى مؤاخذة الضحية، وتحميلها المسئولية بدعوى أنها هى التى تستفز هؤلاء، بما ترتديه من ملابس مثيرة، لكى يرتكبوا فى حقها، ما يمارسونه من سلوك همجى، وندر من بينهم من يتدخل للفت انظارهم الى ان ما يمارسونه، عمل شائن، حتى وصل الامر الى حد التحرش بالمحجبات، والمنتقبات. والغريب أن المنطق الذى يستند اليه هؤلاء المتحرشون، كما اشارت الى ذلك بعض من شاركن فى المناقشة التليفزيونية المهمة التى أجراها الإعلامى المتألق «حافظ الميرازى» فى برنامجه المتميز «بتوقيت القاهرة»، يذهب إلى زعمهم انهم يفعلون ذلك لكى يعلموا الفتيات الفضيلة، ويجبرهن على ارتداء ملابس وقورة، والتحلى بالأخلاق الكريمة، وهو عذر أقبح من الذنب، وكأن ممارسة الرذيلة، هى الوسيلة الوحيدة للدعوة الى الفضيلة! ذلك سلوك لاعلاقة للثورة به، ولا مسئولية لها عنه، وهو سلوك لا يصدر عن إنسان لديه اى اهتمام بالقضايا العامة، لكنها تصدر عن فريق من البلطجية، ممن لم يتلقوا اى قدر من التهذيب فى بيوتهم، وممن يفتقرون الى اى ثقافة او معرفة انسانية، ويتناولون أشكالا من مغيبات الوعى، التى تفقد الإنسان السيطرة على نفسه، وهم فى رأى بعض الثوار عناصر مندسة تستهدف، وفق مخطط مرسوم من أعداء الثورة، التشهير بها والتنفير منها، وهو احتمال وارد، لكنه على ضوء الشواهد، ليس الاحتمال الوحيد، إذ الأرجح أن هذا السلوك، هو امتداد لأشكال من الانفلات الأخلاقى عرفتها مصر قبل ثورة يناير، وتصاعدت منذ السبعينيات، وأصبحت وباء أخلاقيا واجتماعيا، يتطلب برامج مكثفة، إعلامية وتربوية وثقافية، وقانونية للتصدى لها، وايقافها عند حدها. هذا بالإضافة الى ضرورة أن يلتزم كل من ينظم مليونية، بتشكيل فرق لتأمينها من أى سلوك غير أخلاقى او خارج على القانون، وأن تقود من يرتكبه الى الجهات المسئولة كى يقدم الى المحاكمة، لأن مثل هذه السلوكيات ليست عدوانا على المتظاهرات، ولكنه عدوان على الثورة وتحريض ضدها، ولفض المصريين الذين لديهم حساسية خاصة لكل ما يتعرض للشرف والعرض، من حولها، فلينهض الثوار بمسئوليتهم، قبل أن يتوجسوا من مؤامرات غير مستبعدة.