أربعة عقود من الزمن، هى حبات عمرى، بمرها وحلوها كانت تمر أيامى، أنا صاحبة الأربعين عاما لا يعترينى الخجل أمامك أو أمام قرائك، وللقدر تخطيط خاص بعائلتى فتقبلته، راضية قانعة بأن فى كل أمر الله الخير، دعنى أصف لك تلك الحياة، أم وأب وأربع من البنات وولد، أسرة تعيش على كد الوالد، بينما الأم هى تلك التى تدور فى ساقية الوفاء بطلبات الأطفال، ربتنا أمى وأكملنا تعليمنا، كانت تتهجد إلى الله بصدق، وكانت السماء تستمع لدعائها، فإخوتى حصلوا على درجات علمية راقية، ونالوا مراتب التفوق لدرجة أن الأختين عملا فى سلك التدريس الجامعى، واحدة ارتقت لعضوية هيئة تدريس بإحدى الجامعات فى الولاياتالمتحدةالأمريكية، وكانت لنا أخت رابعة، هى بسمة حياتنا الأولى بزواجها ثم إنجابها طفلتها، وللقدر عزيزى المحرر تدخلات لا يعلمها ولا يفهم سرها إلا الله، حيث ماتت تلك الأخت وتركت لنا تلك العصفورة الصغيرة التى كانت تغرد داخل بيتنا، أسميناها شذى وقلنا إن الله تركها لنا نبتهج بها، يتيمة الأبوين، فكنا عشها الأصغر، أنا وأمى والشقيقتان والفتى، وأضحت خريطة أسرتى هى أمى والشقيقتان وشذى التى تنشر عطرها بيننا، بينما الأخ مغترب فى بلاد بعيدة، يناوب الاتصال والسؤال ولا يبخل علينا بماله، ووجدتنى متبتلة بتربية الفتاة اليتيمة، قلت لنفسى ابنة أختى ولم يعد لها فى الدنيا سواى، كان علىّ التقرير بفعل التضحية الفعلية، تزوجت أختى التى تصغرنى، وكنت -أنا- رافضة لمبدأ الزواج، حيث تضافرت الأحداث بعد ذلك وعلمنا بأن كبد أمى أنهكته الحياة، وكان لزاما على البنتين وأنا تطبيب الأم التى فجعت بوفاة ابنتها الكبرى، كانت عروض الزواج التى تأتى مرفوضة من الأساس، لم أستجب لأى نداء، اكتفيت من الدنيا أن أقوم بتطبيب أمى وأن أظل بجوارها فى أزمة مرضها الذى استبد بها، كانت أمى سيدة بينها وبين الله وصل، تحب أولياء الله، وكنت أعجب من تلك السيدة البسيطة التى تهوى أن تجبر خواطر عباد الله، ولا أتحدث عنها بمفهوم المبالغة والله شاهد فهى فى دار الحق، كانت أمى لها هواية غريبة حيث كنا نسكن فى منطقة فقيرة فى بادئ الحياة، فكانت تعطف على المجاذيب بشكل فيه مبالغة، كانت تدخلهم بيتنا وتطعمهم وتستر عوراتهم، وكنا نسألها: لمَ تفعلين هذا؟، فتقول لنا: «هؤلاء هم أهل الطريق، لا يعلم بظروف العباد إلا خالق العباد» دون أن تعرفهم كان بيتنا يضج أحياناً بصراخ مجذوبة أو ضحكة هستيرية لسيدة فى منتصف العمر ترتدى قطعا ممزقة من الثياب، وكانت أمى حين تخرج للسوق وتلتقى إحداهن، فتأتى بها لبيتنا، تطعمها وتسقيها وتكسوها من فضل الله، ثم تتركها لتمضى لحال سبيلها، وكنا نسألها وننكر عليها ما تفعله، كنا نقول لها: «يا ستى انتى بتتعبى نفسك ليه.. كم ساعة وستقوم بخلع ثيابها مرة أخرى وتنام تلك السيدة بجوار كوم القمامة فى السوق» فكانت ترد علينا: وأنا سآتى بها مرة أخرى لتلبس ثيابا جديدة. ربما كان هذا سر فلاح إخوتى وفلاحى، فأنا أيضاً أشغل وظيفة قيادية فى إحدى الوزارات داخل محافظتى، ومشهود لى بالنجاح والكفاءة، كبرت «شذى» الفتاة اليتيمة، أضحت فتاة يافعة حلوة، تزوجت أختى الصغرى ثم الأصغر. ولا أعلم كيف أتمم لك كتابة الشطر الأهم فى حدوتتى، تخيل عزيزى المحرر بعد أربعين عاماً، يدق قلبى لذلك الرجل، فى البدء استنكرت هذا الأمر وذلك الحس، لا أعلم، لكن ما أعلمه أنه بدأ يحدثنى فكان قلبى يرق ثم يلين ثم استعذبت حديثه، كان به من الصفات التى أنفر منها، فهو مدخن وكنت كارهة للتدخين والمدخنين، متزوجاً وكنت رافضة للاقتران أو الحديث مع شخص متزوج، فوضوياً وأنا أحب النظام. أسميته بين نفسى بالمجذوب، كان أشبه بالمجذوب فى حراكه وأفعاله، لكن له قلب طفل، يجمع بين كل المتناقضات، بين حب الفضيلة والجموح، بين الثبات والحكمة والجنون والعجلة. لا أعلم كيف اقتحمنى، وبت أسيرة لفعله وحراكه، التدخين الذى أنفر منه صرت أستعذب رائحة التبغ فى لقائى به أثناء العمل، كان الجميع يرى أن لكل منا عالمه، أنا يا عزيزى لا أعلم معنى الحب، أنا أعلم فقط أننى صرت مشدودة بالكلية له، بت أقاوم هذا الأمر، كان يشدنى هو بجموحه لعالم المجاذيب وحراكهم. صرت أدور فى فلكه دون أن أدرى، وإن كنت فى كل يوم أرفض أن أصارح نفسى بهذا الأمر الذى أضحى للجميع مرئياً من أسرتى، استطاع أن يكسر القيد، وأن أسمح لنفسى أن ألتقيه ثم نتحاور ونتناقش، كان لكل منا قضيته التى يدافع عنها لكنى أجدنى مشدوهة لطريقة عرضه وإن كنت أختلف معها، ثم حاصرنى فطلب أن نتزوج، أن يتم هذا الأمر ليصل لمنتهاه، وكانت الكارثة الأكبر هى فى مفاتحة إخوتى فى الاقتران بمثل هذه التركيبة التى تختلف عن عالمنا. ويبدو أن للحب فعل المستحيل، وباتت الفتاة ذات الأربعين فتاة لم تكمل العشرين، غاب عنها وعيها واستبد بها الهوى، وصار ذلك المجذوب هو النواة التى أدور حولها ومركز الكون والحياة، ووقفت أمام أهلى جميعا، ورغم فقره وقلة حيلته، تكفلت من الحياة بكل شىء، كان قاسيا علىّ أن أبيع خاتم أمى الذى أهدته لى، كى نتمم الزواج، قلت لنفسى يهون كل شىء لكن لا تنازل أن يحضر أخى الأكبر ليتمم الأمر، وقبل أخى على مضض محتقرا مجذوبى. وتزوجنا، هى الأيام الأولى فقط، ثم تحول المجذوب لتعيس، كان يعانى من آلام روح استبدت بزوجته الأولى وصرت أنا المعذبة بين زوجته الأولى وبين تعاسته ووحدتى، حيث أقمت فى منزل صغير بالإيجار، وتباعد اللقاء بيننا، متمزق بين عالمى وعالم زوجته وأولاده، وأنا تفتك بى الوحدة، حتى صرت أكلمه بين جدران بيتى الفقير، وكان يسمعنى لكن صوته كان يأتينى عبر الهاتف حزينا مشروخا عاجزا، يأتى بعض الوقت يلثمنى، وصوته مخنوق، صارت الفتاة سيدة ما بعد الأربعين، لكنها سيدة استمدت الحياة والروح من ذلك المجذوب، قلت له إن حلمى منك أيها المجذوب طفل يحمل ملامحك وتفاصيلك، طفل يؤنس وحدتى، لكن المجذوب كان قاسيا، صدمنى برده الذى أوجزه: «لا أستطيع أن أهبك ذلك الغلام». للقدر حسابات أخرى، كان مجذوبى يستشرى فيه الحزن، يستبد به ويعصره، حتى بات منهكا جراء ذلك التفسخ بين عالمين، لكنى وحيدة عزيزى المحرر وحيدة، فلم يعد أخواتى هن الملاذ، حتى شذى لم تضف لروحى بهجتها، الحياة تتوقف عند هذا المجذوب وتنتهى عنده، لكنه ذبحنى يا سيدى، وجدته يبلغنى برسالة هاتفية نصها: «اغفرى لى أيتها الأم.. وأعينينى على تحريرك لوجه الله». أيام قليلة ثم مضى المجذوب ينبئنى أنه قرر الرحيل عن عالمى، بحجة تحريرى، بورقة طلاق، تركنى بعدما باتت كل الأماكن يتيمة، صار الملجأ هو حضن أمى حيث مقبرتها فى البلاد البعيدة التى تبعد عن بلدتى بساعة، صرت أذهب إليها أبث لها وحدتى ويتمى، رحل المجذوب.. سبعة أشهر على فراقه، الحياة متوقفة، صرت كمومياء تؤدى عملها فى صمت، كيف يكون الخلاص عزيزى المحرر.. أخبرنى كيف يكون الخلاص؟!. إلى صاحبة الرسالة كلما أعدت قراءة حكايتك وجدت أن بروحى ألماً قد استبد بى، حيث ألم الحب، الحب بمفهومه المكبر والمعظم لا حب التيك أواى والدليفرى وعصر الكيبورد، وأجدنى أمام امرأة استبد بها الهوى وأضناها الغرام، وقتلها الوجد، واستباح دمها الجوى، والجوى يا عزيزتى هو الحزن الناجم من شدة العشق. لكننا أمام نفس وروح ألهبها الجوى. بعد سنوات العمر التى كنت عازفة فيها عن قبول زوج أو حبيب لتربية شذى اليتيمة، جاء المجذوب -بحد تسميتك- وقد قتلك بسناه، ذلك المدخن وصاحب كل التقاليع التى تكرهينها، لكن هذا هو الوجد يا عزيزتى، مثلما وصفته أنت بالحمى التى تجتاح الجسد فتربكه وتزيد من حرارته طلبا للسقيا، كان من الممكن أن أكره مجذوبك لولا أنه كان معك نبيلا، فقد قرر الاقتران بك رغم أسرته، ولأنه مجذوب بحد تسميتك، فهو شخص لا يحكم العقل، ولا أجدنى فى هذا التوصيف ذاماً له، بل إنى أتفق معك أن العقل هو أداة الشر الأولى داخل الجسد الإنسانى لأنه المحرك لكل الطموحات والتطلعات الدنيوية، ذلك العقل الذى يجعلنا نفكر للحصول على المال، ويجعلنا نلجأ للنفاق لمدح رئيس العمل، ولا أدرى كيف كان سر عبقريتك فأطلقتِ على محبوبك وزوجك السابق لقب المجذوب، وهى صفة أراها نبيلة وشريفة، كون المجذوب شخصاً استبد به هوى الرب فجذب بالكلية له، فصار لا يعبأ ولا يهتم بأحوال الدنيا الدنية ولا الخلائق. لكنى غير متعاطف معه وأدينه كونه قد حرم عليك نعمة الإنجاب، وأراها أنانية، ربما كانت عنده من الدوافع التى لا نعلمها لكن الدافع الذى يبدو أمامى وأمام القارئ هو حرصه على أسرته وزوجته الأولى وأبنائه، هو فى ذلك لا نستطيع وصمه بالأنانية، كثير من الرجال يتزوجون وينجبون أولاداً ثم يتركونهم لتصاريف القدر. لكننا أهملنا فى حكايتك مصاب الزوجة الأولى أم الأبناء وصاحبة العمر المنهك مع مجذوبك، النفس البشرية ترى دوما مصابها هو الأعظم لكن بقدر من الحكمة تتطلب العدالة تغيير مواقع الأفراد، لذا لما تفكرى فى تغيير موقعك لتكونى محل الزوجة الأولى، ووقتها إذا تحدثت لنا فما عساكى أن تقولى، هل ستسمينه المجذوب أم أنك تسمينه ذلك النذل الذى باع العشرة والخبز والملح وسنوات العمر.. قاتل يا عزيزتى فعل الهوى قاتل ذلك الفعل. هذا الحب الذى من صفاته الأصيلة التفرد والأنانية والغيرة. طرف ثالث يقتضى أن تسمعيه هو الطرف الأصيل فى المعادلة، طرف الزوجة الأولى ومعيشتها وتعلقها بذلك المجذوب الذى يبدو أنه يشكل لها نواة هى الأخرى، لأنه لو كان غير ذلك ما كان استبد به الحزن بحسب ما ذكرته، دعينى أخبرك أن البداية لزواجك به، بها نقطة غامضة، أنت تحدثينى بنبرة بها نزعة ملائكية بينما النفس البشرية تحمل فى عمقها فعل الأنانية والكيد، ورضى الله عن أمهاتنا أمهات المؤمنين ولعلك استحضرت فى ذهنى موقف السيدة عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها مع السيدة صفية وهما من أطهر خلق الله، لكن النفس البشرية بها من الكيد النسوى ما أوضحته التجربة الإنسانية. هل حديثى إليك الآن هو بكاء على اللبن المسكوب؟.. حديثى إليك هو إعادة إنتاج وإعادة قراءة للمشهد الحياتى بين أطراف المثلث بأضلاعه، أنت وهى والمجذوب. إعادة قراءة للمشهد بعين موضوعية تتخلين فيها عن ذاتك، تبدلين الأدوار بينك وبينها، ثم تعيدى افتتاح المشهد مرة أخرى بعين ثالثة وهى عين الحياة وتبعاتها. إن القناة الأولى للحوار يجب أن تكون مبنية على راحة الروح، لا يمكن أن يستشعر الإنسان براحة نفسية على أنقاض روح معذبة، فكيف تودين من مجذوبك أن يحيا سعيدا معك بينما هناك نفس معذبة تئن... نصيحتى لك هى إعادة قراءة المشهد مع تبديل الأدوار.. وسأنتظر رسالتك الجديدة تخبرينى كيف وجدت المشهد وكيف قرأته روحك.. أو ربما يصل ما نقوله الآن لطرفى المعادلة المتبقيين فنجدهما يرسلان ردهما فتكتمل محاور المعادلة ونستمع لكل الأطراف.. لكنى أود أن أخبرك بأمر استبد بى، أننى كلما قرأت رسالتك وجدتنى أقرأ الفاتحة لروح أمك رحمها الله.