القاضى محايد فى عمله بعيداً عن المصالح الشخصية والميول السياسية والدينية الدولة تحمى النظام القضائى من التعرض لمؤثرات بعيدة عن الصالح العام أقترح على البرلمان إصدار قانون لندب القضاة المحالين إلى المعاش للعمل فى لجان ضريبة العقارات لا شك أن القضاء هو محور العدالة، وضمان الحريات، لذلك كان من الضرورى أن ينص الدستور على ضمانات خاصة باستقلاله، وهذا الاستقلال يعنى أن القضاء وحده هو الذى يستقل بالفصل فى الخصومات، وإنزال العقوبات على الخارجين عن حكم القانون، كما يعنى هنا الاستقلال أن القضاة لا يخضعون إلا للقانون وحده، ولا يستطيع أحد مهما علت مكانته أن يملى عليهم إرادته أثناء تأدية أعمالهم. لذلك نص الدستور فى المادة 184 منه على أن السلطة القضائية مستقلة تتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها، وتصدر أحكامها وفقاً للقانون، ويبين القانون صلاحياتها، والتدخل فى شئون العدالة أو القضايا جريمة لا تسقط بالتقادم، وبذلك يكون الدستور قد كفل استقلال القضاء، بحيث لا يحده فى أحكامه إلا القانون والضمير. ويجب ابتداء أن يكون القضاء متحرراً فى مباشرة اختصاصاته من أى تدخل من قبل السلطتين التشريعية والتنفيذية؛ لأن القضاة لا يخضعون لغير القانون، ولأن واجبهم لإعمال حكم القانون وتطبيقه يتطلب منهم الوقوف على إرادة المشرع على الوجه الصحيح، وهذا لا يتأتى إلا إذا كان القضاة لديهم الحرية الكاملة والرضاء الصحيح فى استخلاص تلك الإرادة دون ضغط أو تدخل من قبل هاتين السلطتين. المصالح الشخصية كما يجب أن يكون القاضى محايداً فى عمله، بعيداً عن التأثر بالمصالح الشخصية، والنزوات السياسية، والميول الدينية، وحيدة القضاء من المبادئ الدستورية التى يجب توافرها، حتى إذا لم ينص الدستور عليها صراحة؛ حيث يمكن استخلاص هذه الحيدة من مبدأ استقلال القضاء، باعتبار أن هذا الاستقلال تقرر ضماناً لقيام القضاء بدوره فى دفع الأذى عن المظلومين، فإذا لم يتصد لهذه الحماية قضاء محايد، فليس هناك معنى لاستقلاله، وأى قيمة تكون لهذا الاستقلال إذ كان خاضعاً للهوى الشخصى أو أسيراً لمصالحه الشخصية. ويقتضى مبدأ الحيدة، أن يظل القاضى بعيداً عن أى مؤثرات أو ضغوط خارجية يمكن أن تفرض عليه آراء مسبقة أو يكون مدفوعاً بمصالح أخرى، ويبقى تأثيره الوحيد بالقانون، والحقيقة وحدها، فنزاهة وحيدة القضاء هما من حقوق الإنسان لطالب العدل أكثر من كونهما امتيازاً للسلطة القضائية يمنح إكراماً لها. ولا شك أن القضاء هو ميزان العدل، وتقتضى سلامة هذا الميزان، أن يكون مجرداً عن التأثير بالمصالح، وقد كفل مبدأ استقلال القضاء، حمايته من التأثير الخارجى من جانب سائر سلطات الدولة، ومع ذلك فإن الاستقلال لا يضمن وحده سلامة ميزان العدل، فالقيمة الحقيقية للقانون تتوقف على تطبيقه المحايد. وقد حرصت المواثيق الدولية على تأكيد مبدأ حيدة القضاء، فنص عليها الإعلان العالمى لحقوق الإنسان الصادر سنة 1948، والاتفاقية الدولية للحقوق المدنية والسياسية الموقع عليها سنة 1966 والتى انضمت إليها مصر سنة 1982، والاتفاقية الأوروبية الصادرة سنة 1950، ومؤتمر ميلانو سنة 1970 الذى أوجب أن تشتمل أى طريقة لاختيار القضاة على ضمانات ضد التعيين فى المناصب القضائية بدوافع غير سليمة، ولا يجوز عند اختيار القضاة أن يتعرض أى شخص للتمييز على أساس العنصر، أو اللون أو الجنس أو الدين أو الآراء السياسية، وبذلك فإن مبدأ حيدة القاضى يفترض البعد عن التحيز والتعصب والمحاباة، ويعنى عدم تفضيل شخص على آخر. ولذلك تتطلب المادة 20 من النظام الأساسى لمحكمة العدل الدولية من كل عضو فى المحكمة أن يقرر فى جلسة علنية، قبل أن يباشر عمله، أنه يتولى وظيفته بلا تحيز أو هوى، وأنه لن يستوحى غير ضميره. والحقيقة أنه منذ احتكم الناس - من قديم - إلى القضاء تصوروه دائماً جهة محايدة يمكن الاطمئنان إلى حكمها بالاطمئنان إلى حيدتها، ولهذا السبب كانت العدالة فى مفهوم الناس مقرونة بالحيدة، ولقد قام تنظيم القضاء فى شتى النظم والدول على بعض الأصول، ربما كان أولها الحيدة كأصل ثابت من أصول القضاء، وإذا كانت بعض التشريعات تحرص على تأكيد هذا الأصل، وتعتبر عدم الحيدة سبباً من أسباب الرد أو المخاصمة، فإن دور القانون غير المكتوب أو السوابق القضائية، قد اعتبرت هى الأخرى هذا الأصل من الأصول التى تتسامى فوق كل جدل. أداء بلا تحيز!! وقد ارتأى البروفيسور جورج اندرية، أن ضمان حيدة القاضى هو إحدى مشكلات العدالة، وأن حل هذه المشكلة لا يكون إلا بوضع فيصل حاسم دقيق بين القاضى من جانب، ونفسه من جانب آخر، وهذا الفيصل هو الذى يضمن تجريد القاضى جبراً من صفاته التى تتعارض مع العدالة، بحيث لا يبقى فيه سوى صفته كقاض فقط دون غيرها من الصفات الأخرى. هذا الفيصل يكمن فى فكرة الحياد، فهى الضامنة الوحيدة التى يمكن بها الإنسان الذى يمارس مهمة تحقيق العدالة أن يتجرد من الصفات، التى تجعل تحقيق هذه العدالة مشكوكاً فيه، وحياد القاضى معناه أنه لا يميل إلى هذا الجانب أو ذاك، فهو يطبق القواعد القانونية التى تحقق العدالة، وفقاً لمفهوم النظام القانونى الذى يفرض هذه القواعد، وقد صاع الفقه القانونى هذه الحقيقة فى المبدأ اللاتينى الذى يقول: لا أحد يستطيع أن يكون خصماً وحكماً فى نفس الوقت!! القانون الإنجليزى ويقصد باستقلال القاضى وحيدته فى القانون الإنجليزى هو أن يقوم القاضى بعمله القضائى مستقلاً عن سائر الهيئات الحكومية الأخرى، فليس لأى هيئة أن تملى على القاضى ما يقضى به فى دعوى منظورة أمامه، إذ يقوم بعمله القضائى بحرية بعيداً عن التأثر بأى مؤثر، أو أى تدخل، وقد تضمنت قوانين غالبية الدول العربية تحديد بعض حالات مخاصمة القضاة وأصول عدم صلاحيتهم، وكيفية ردهم. ويعتبر واجب حيدة القضاة من أهم واجبات القاضى. إنَّ القضاة بشر يجرى عليهم ما يمكن أن يجرى على البشر، وما يمكن أن تسول لهم نفوسهم، وما يمكن أن تتأثر به من ميول معينة، ولذلك فإن الدساتير - مثل الدستور الكويتى فى المادة 162 - تشير الى أن نزاهة القضاة كأساس من أسس استقلال القضاء، كما تتضمن قوانين تنظيم القضاء التوجيهات اللازمة لحين اختيار عناصر التشكيلات القضائية كوسيلة أولى لحماية القضاة من أنفسهم. ولا جدال أن القاضى أثناء قيامه بواجبات وظيفته مقيد بضوابط أداء هذه الوظيفة، ومن أهم هذه الضوابط أن يكون محايداً فى أداء عمله، ولذلك تتطلب غالبية النظم القانونية لكى يكون القاضى صالحاً للفصل فى الدعوى انتفاء علاقات معينة له بهذه الدعوى، وقد نصت المادة 25 من مشروع الإعلان العالمى لاستقلال القضاء على أنه: لا يجوز للقاضى أن يحكم فى قضية يمكن أن تثير تخوفاً معقولاً من تحيزه أو من تنازع فى المصلحة أو تعارض فى المهام. وقد تضمن تقرير المقرر الخاص للأمم المتحدة صوراً لبعض حالات الانحراف التى تقع من بعض القضاة فى دول العالم، ومن هذه الحالات، حالة عدم استعداد القاضى للانسحاب من قضية مختلف فيها، تنطوى على حالة من حالات الحرج أو الصلاحية، لذلك يجب على القاضى قبل أن يتصدى للفصل فى الدعوى أن يتأكد أن له صفة الحكم فى الدعوى أو الصلاحية الشخصية للحكم فى الدعوى. ويتحدث الفقه المصرى عن صفة القاضى للدلالة على صلاحيته لمباشرة أعمال وظيفته بناءً على تقليد هذه الوظيفة، وعدم الصلاحية أو يتخذ إحدى صورتين، هما صورة القاضى غير الأصل، وصورة القاضى غير المنزه، وهذا الأخير هو المتصدر بأسباب التنحى والرد، فالقاضى غير الأهل هو من لا يملك ولاية القضاء، أما القاضى غير المنزه فهو الذى تربطه مصلحة شخصية بموضوع الخصومة المطروحة عليه. والقانون الأمريكى يوجب على القاضى التنحى عن نظر القضايا التى له مصلحة شخصية فيها، وأوجب على القاضى أن يقوم بذلك من تلقاء نفسه، فإذا لم يقم بذلك كان لكل ذى مصلحة أن يرفع الأمر إلى رئيس المحكمة لنظر الأمر ويقترح عليه التنحى. وقد وردت قوعد رد القضاة فى قانون المرافعات المصرى فى المادة 148 والتى تنص على أنه يجوز رد القاضى لأحد الأسباب الآتية: 1- إذا كان له أو لزوجته دعوى مماثلة للدعوى التى ينظرها. 2- إذا كان لمطلقته التى له منها ولد أو لأحد أقاربه على عمود النسب خصومة قائمة أمام القضاء مع أحد الخصوم فى الدعوى. 3- إذا كان أحد الخصوم خادماً له. 4- إذا كان بينه وبين أحد الخصوم عداوة أو مودة يرجح معها عدم استطاعته الحكم بغير ميل. ويتميز الرد بخصيصتين: إنه لا ينتج أثره فى امتناع القاضى عن نظر الدعوى بمجرد تحقق إحدى حالاته، وإنما يتعين طلبه، أما الخصيصة الثانية: فهى أنه لا يتعلق بالنظام العام، فيجوز التنازل عن طلبه، وبذلك فإن القاضى لا يفقد صلاحيته بمجرد توافر سبب من أسباب الرد فى شأنه، بل الأمر متروك إلى تقديره وضميره، فله أن يتنحى من تلقاء نفسه، فإن لم يفعل، فإن للخصوم الحق فى طلب رده، والحكمة من ذلك أن الدولة تفرض على المتقاضى قاضياً، فيتعين أن يمنح للخصم وسيلة لاستبعاد هذا القاضى إن توافر أى سبب من شأنه عدم الاطمئنان إلى حياده، فالأمر متروك لتقدير القاضى والخصوم. ولا شك أن سبب وجود مودة أو عداوة بين القاضى أو أحد الخصوم يرجح معها عدم استطاعته الحكم بغير ميل، يمكن أن تنطوى تحته صور متعددة من الأسباب التى يثور فيها الشك حول استطاعة القاضى الحكم بغير ميل، ولا يشترط فى المودة أن تصل إلى حد المؤاكلة أو المساكنة، أو قبول الهدايا، وهذا السبب سبب عام، يمكن أن ينطوى تحته صور متعددة لما يفيد العداوة أو المودة. ولذلك فإن القاضى لكى يحكم دون محاباة، ودون تحيز ينبغى عليه أن يضمن الموضوعية، والتجرد، كعادة وموقف، ويجب عليه ألا يصدر حكماً إذا كانت له مصلحة متصلة بالأطراف أو بالموضوع بأى وجه من الوجوه، يتضمن كل نظام قانونى أحكاماً لمنع القاضى من نظر الدعوى على أسباب تعارض المصالح، وعدم جواز الجمع، فالمبدأ القائل إنه لا يجوز أن يكون قاضياً فى دعواه مبدأ قديم جرى تطويره، فالعدل لا يجب تحقيقه فقط، وإنما يجب أن يكون ظاهراً جلياً للعيان أنه قد تم تحقيقه فى حيدة وتجرد. حياد القاضى ومن البديهى إذن أن يكون حياد القاضى أمراً ضرورياً؛ حتى يستطيع الحكم بين الادعاءات المتعارضة للأطراف المختلفة فى الدعوى، وهذا المبدأ جماع لمظاهر ثلاثة: أولها: الحياد الفنى، والذى يرتبط بالدور الذى يلعبه القاضى فى مراحل الدعوى، وتضبط حدوده قواعد الإجراءات الخاصة بالقوانين المدنية والجنائية والإدارية. ثانيها: الحياد الاجتماعى، الذى يرتبط أساساً بعدم جلوس القاضى على منصة الحكم للفصل فى دعوى معينة إذا كانت تربطه علاقات قرابة أو مصاهرة بأحد أطرافها، وذلك على النحو الذى يفصله فقهاء القانون. ثالثها: الحياد السياسى، والذى يرتبط أساساً بعدم انتماء القاضى لأى من الهيئات السياسية؛ حتى لا يتهم بالخضوع فى أحكامه لتأثيرات الصراعات السياسية. ولا شك أن القاضى نفسه ملزم بواجب الحيدة، وأن دوره فى الإرشاد إلى العدالة - كما يقول زميلنا الدكتور عبدالفتاح مراد - مثل الإبرة المغناطيسية فى البوصلة - والتى يجب ألا تتأثر بأى مؤثر خارجى حتى ترشد الجميع إلى الاتجاه الصحيح للحق والعدل، فلا يكفى لسلامة القضاء أن تكون أحكام القاضى عادلة ومتفقة وصحيح القانون بل يجب بالإضافة إلى ذلك أن تستوفى مظهر الحيدة أمام الخصوم والكافة؛ حتى لا تعلق بها مظنة التحيز وشبهة الاسترابة، وحتى تحظى بالثقة والاحترام، ويبقى القاضى بمنجاة عن كل المؤثرات التى تنبعث من خارج وقائع الدعوى المطروحة عليه؛ حفاظاً على حيدته وصوناً للثقة التى وضعها المتقاضون فيه باعتباره يحمل أمانة العدل وهو من صفات الله، وباعتبار أن عمل القاضى ليس وظيفة بقدر ما هو ولاية ورسالة. والقاضى هو إنسان يعيش فى المجتمع ليس بمعزل عما يحيط به، ولا يمكن أن يكون كذلك، والاستقلال المثالى للسلطة القضائية لا يتمثل فى عزل القاضى فى قطع علاقاته أو اتصالاته، إنه يفترض وجود الصفة الذاتية لحرية التصرف، وفقاً لمعايير السلوك الأخلاقى والمهنى وضرورة الالتزام بذلك. ولا جدال أن الدولة هى الكفيلة بحياد القضاء، وهى الكفيلة بإبعاده عن المواقف التى تعرضه لخطر التحكم وتأمنه ضد المؤثرات والميول البعيدة عن الصالح العام، فقوانين الهيئات القضائية بلا استثناء لا تجيز للقاضى أن يجمع بين وظيفته ومزاولة التجارة أو أى وظيفة أخرى سواء تولى هذه الوظائف بالتعيين أو بالتعاقد أو بالانتخاب، ولا القيام بأى عمل سواء بأجر أو بغير أجر لا يتفق مع استقلال القضاء أو كرامته، أو يتعارض مع واجبات القاضى أو حسن أدائه لوظيفته، وقد ثار التساؤل فى شأن النصوص الواردة فى قوانين الهيئات القضائية التى تجيز ندب أعضائها للقيام بأعمال قضائية أو قانونية لوزارات الحكومة ومدى اتفاقها مع مبدأ حياد القاضى، فكيف يكون القاضى مستقلاً، ومحايداً فى قضائه، وهو فى الوقت ذاته منتدب مستشاراً قانونياً لدى وزير لديه قضية منظورة أمام المحكمة التى يرأسها أو التى يعمل عضواً فيها؟! وقد ذكر المستشار محمد حامد الجمل، رئيس مجلس الدولة السابق، أن المحكمة الإدارية العليا انتهت عند بحث هذا الأمر إلى عدم وجود تعارض؛ لأن الوزير بشخصه ليس طرفاً فى هذه الدعوى، ونعى المستشار الجمل على هذا الحكم تجاهله حقيقة الواقع، ذلك الوزير الذى انتدب القاضى للعمل فى الوزارة التى يتولاها، هو الذى يشرف على عمل القاضى، وأن له مصلحة شخصية فى كسب القضايا الموجهة ضده قراراته، وبافتراض أن القاضى سيحافظ على حيادة، ويتنحى عن نظر الدعوى المنظورة أمامه، إلا أن الندب فى ذاته يوجد الشك فى تأثير الوزير على القاضى المنتدب، ويكون الحرج حين يحصل القاضى بقرارات من الوزير - كالمعتاد - على بدلات ومرتبات ومكافآت ومزايا عينية أخرى، كتخصيص سيارة خاصة لانتقالاته مقابل ندبه بالوزارة إلى حضوره للجان التابعة لهذه الوزارة. بالإضافة الى ذلك فإن هذا الندب يوجد صلة يومية بين القاضى المنتدب، والوزير، وقيادات الوزارة وقد ينشئ ذلك افتراضاً علاقات خاصة، ومصالح متبادلة بينهما، فإذا أضفنا إلى ذلك أن نصوص كافة قوانين الهيئات القضائية خلت من ثمة نص يعطى إدارة التفتيش القضائى حق مراجعة أعمال القاضى المنتدب داخل وزارته لتقدير مدى سلامتها من الناحية الواقعية والقانونية، فهنا تكون الطامة الكبرى!! وإذا ما أضفنا إلى ما تقدم أنه نتيجة هذه الانتدابات حرمت السلطة القضائية من مساهمة القضاة المنتدبين فى إقامة العدالة على الوجه الأكمل، رغم وجود نقص حاد فى عدد القضاة بالنسبة لعدد القضايا المنظورة بالمحاكم، فضلاً عن أن هذا الندب أثار تفرقة مالية، وعدم مساواة بين مرتبات وبدلات ومزايا القضاة المنتدبين وبين أقرانهم غير المنتدبين، وهو أمر لا تقره القوانين وتأباه العدالة. لذلك فطن المشرع الدستورى إلى هذا الأمر فكلف فى المادة 236 مجلس النواب بإصدار قانون لتنظيم قواعد ندب القضاة، بما يضمن إلغاء الندب الكلى والجزئى لغير الجهات القضائية، أو اللجان ذات الاختصاص القضائى أو لإدارة شئون العدالة أو للإشراف على الانتخابات، وذلك خلال مدة آخرها 18 يناير سنة 2019. وإعمالاً لذلك أعدت الحكومة المشروع النهائى للقانون، حظرت فيه ندب القاضى للعمل مستشاراً أو خبيراً، أو بأى صفة كانت فى أى وزارة أو محافظة أو هيئة أو مصلحة حكومية أو أى جهة إدارية أياً كان مسماها، وحددت 4 استثناءات تتيح الاستعانة بهم بالتكليف أو الندب فى الجهات الآتية: 1- الجهات ذات الاختصاص القضائى 2- الجهات القضائية 3- فى مهمة الإشراف على الانتخابات 4- أو لإدارة شئون العدالة. وحدد المشروع مصطلح إدارة شئون العدالة بأنه كل ما من شأنه تنظيم العدالة وإدارتها على نحو يرسخ من موجبات تحقيقها، وشكل عاصماً من التدخل فى أعمالها أو التأثير فيها، أو تحريفها أو الإخلال بمقوماتها، ويبدو أن هذا التعريف إنما هو التفاف على الدستور وتهرب من حكم المادتين 186 و239 آنفة البيان والبرلمان وشأنه فى هذا الأمر. والملاحظ أن المشرع فى قانون الضريبة على العقارات المبنية، أناط بوزير المالية تشكيل لجنة سماها لجنة الطعن، تكون مهمتها الفصل فى الطعون - المقدمة من المكلفين بأداء الضريبة - فى القرارات الصادرة بتقدير القيمة الإيجارية، وأن يرأسها أحد ذوى الخبرة من غير العاملين الحاليين أو السابقين بمصلحة الضرائب العقارية، وهذه اللجنة هى «لجنة إدارية» ليس لها اختصاص قضائى، والقرار الصادر منها قرار إدارى يصح الطعن عليه أمام محكمة القضاء الإدارى، ومن لا يرتضى القضاء الصادر منها فله حق الطعن عليه أمام المحكمة الإدارية العليا، ومن ثم فإن ما جرى عليه العمل فى وزارة المالية من طلب قضاة بأشخاصهم لتولى رئاسة هذه اللجان أمر فى غير محله؛ لأن المشرع لم يشترط أن يتولى قاض رئاسة هذه اللجنة، ولأن العدالة المثلى لا تقر أن يختار الخصم قاضيه، ولأن الندب فى ذاته أمر يضر بسير العدالة؛ لأنه يزيد من تراكم القضايا فى ساحات المحاكم والتى ينتظر أصحابها الفصل فيها من سنوات، فضلاً عن مخالفته الحظر الوارد فى الدستور وعدم جواز الندب إلا للجان القضائية وهذه اللجنة ليست من بين هذه اللجان. ولا شك أنه لا توجد طائفة أنضج من رجال القضاء تميزاً، ولا أنقى سريرة، ولا أطهر يداً، ولا أعظم ضميراً، وصدق الرسول، صلى الله عليه وسلم، حين قال: من ولى القضاء فقد ذبح بغير سكين، وقوله: قاض فى الجنة وقاضيان فى النار، قاض فى الجنة علم الحق وعمل به، وقاضيان فى النار، أحدهما: علم الحق وحاد عنه، والآخر: لم يعلم بالحق فقضى بما لا يعلم، فسيؤتى بالقاضى العادل، يوم القيامة، يلقى من شدة الحساب ما يتمنى أنه لم يقض بين اثنين من ثمرة قط. لذلك فإن الحل الأمثل هو اللجوء إلى وزير العدل الذى يملك تكليف رجال القضاء الذين أحيلوا إلى المعاش لرئاسة هذه اللجان، وهو أمر سيحافظ على سير العمل بالمحاكم ولا يلحق به أى ضرر. وأقترح على البرلمان وهو بصدد إصدار قانون خاص فى شأن ندب القضاة، وتعديل قانون الضريبة على العقارات المبنية أن ينص فى هذين القانونين على أن يترأس هذه اللجان قضاة ممن أحيلوا إلى المعاش، أما إذا كانت وزارة معينة فى حاجة إلى قاض للاستفادة بخبرته، فيجب أن تطبق ما يسرى عليه العمل فى فرنسا، فإذا كانت الجهات الإدارية فى فرنسا تطلب قضاة من مجلس الدولة للاستفادة بخبراتهم، فإن مجلس الدولة نفسه هو الذى يختار هؤلاء القضاة، وهو الذى يدفع لهم مرتباتهم، وبدلاتهم، ومكافآتهم ويحظر القانون على جهات الإدارة، منح هؤلاء القضاة مزايا مالية أو عينية ولا منحهم أى سيارة لانتقالاتهم فلماذا لا تطبق هذه المبادئ المستقرة لا سيما أنها تعطى لمجلس الدولة حق رقابة قضاته، وتقييم أعمالهم، ومساءلتهم عند الحاجة. حينئذ سيحس المواطن باستقلال القضاء فعلاً، وأن القاضى بعيد عن التأثر بالمصالح والميول وأن الحياد قاعدة عامة تطبق على الكافة فمن له آذان للسمع فليسمع.