حوار: نهلة النمر المسكوت عنه فى الغالب يكون قاسيًا عند اكتشافه عرفت الإنسان الشقيان داخل أبى قبل موته فصالحت نفسى على محبته نحن جميعًا أبطال القصة التى فازت فى متحف الكلمة عندما أكتب أكون مطيعة جداً لرغبات نصوصى ألجأ إلى الرمز فى كتاباتى لأننى أخاف أن يصفونى بالجرأة ليس سهلًا على امرأة أن تفتح عينيها ذات صباح، فتجد كل من حولها غيرهم، ليسوا هم من كانت تحيا معهم ولهم، تنتبه إلى أنهم بشر مغايرون، امتلكوا طوال الوقت حيوات موازية كانت هى بعيدة تمامًا عنها، بل الأكثر غبنًا من ذلك أن تكتشف أنه ربما تكون هى التى وفرت لهؤلاء عوامل إقامة هذه الحيوات. هذه المرأة اكتشفت بعد خمسة عشر عامًا من الزواج وإنجاب خمسة أطفال أن زوجها وابن عمها كانت له حياته التى تخصه وحده، التى تتمثل فى عشيقة صدّر لها اهتمامًا لا يقل حجمًا عن ذلك التجاهل الذى منحها إياه، فقد كان يعيش قصة حب ذات تفاصيل كثيرة تضمنت مواقف ورسائل، عندما قرأتها اكتشفت أن هذا الشخص لا تعرفه؛ لتثور الأنثى فى داخلها على نفسها قبل أن تثور عليه، وتتساءل أين كان رادارى طوال هذه السنوات، وكيف له ألا يلتقط هذه الخيانة وقتما اشتعلت بداياتها، وتقول لنفسها: حتى هذا الاستشعار الطبيعى خيب ظنى، بعدما أقنعنى الخائن بأن عزوفه وتجهمه الدائم وشروده كان من أجل التفكير فى مصير الإنسان، وفى كل الأسئلة الوجودية التى يبحث عن إجاباتها البشر. لقد كان زوجها أكثر حرصًا من أن يُكتشف أمره، فلم يخطئ بين اسم زوجته وعشيقته ولو مرة واحدة سهواً، حتى رقم هاتفها كان مسجلًا باسم مجهول، ورسائلها كانت تحمل اسمًا مستعاراً. بالطبع هى امرأة حزينة الآن لأنها اكتشفت أن زوجها خائن، لكن ما يحزنها أكثر أنها لن تستطيع أن تنتقم منه أو على الأقل تثور فى وجهه!! لأن «رامى» قد مات، لترسل له «زينة» رسالة لن يقرأها أبداً، تقول فيها: «لماذا مت؟ وكيف تموت دون أن أشفى غليلى». أتصور أن ما حاولت أن تصفه الكاتبة سعاد سليمان فى هذه الرواية «آخر المحظيات» هو مدى الألم الذى يمكن أن نشعر به حينما نكتشف المسكوت عنه لدى أقرب الناس لدينا. وكى لا يظل هذا التصور تصورًا ويصير أكيدًا كان لا بد من الحديث إليها. سعاد سليمان من مواليد 1966 بمحافظة سوهاج، عاشت طفولتها وشبابها فى الإسكندرية، وتخرجت فى كلية الآداب جامعة الإسكندرية عام 1988، وصدرت لها أول مجموعة قصصية عام 2001 بعنوان «هكذا ببساطة» والتى فازت فى مسابقة محمود تيمور التى ينظمها المجلس الأعلى للثقافة، كما صدر لها عام 2005 رواية «غير المباح» وهى فانتازيا سياسية ترصد لحال بلد يتحول شعبه إلى فئران، وقد حصلت عنها على جائزة اتحاد الكتاب المصرى. كما فازت «سليمان» بجائزة الملك خوان كارلوس الدولية، التى ترعاها مؤسسة «متحف الكلمة» فى إسبانيا، فى القصة القصيرة جدا لعام 2015، فى جائزة تقدم لها أكثر من 22 ألف كاتب من 119 دولة، من خلال ومضة لا يزيد عدد كلماتها على عدد حروف اللغة العربية، لتُعيد هذه القصة لهذا النوع من الكتابة الاعتبار. أما روايتها «آخر المحظيات» فهى تعتبر خطوة لها ثقلها فى مشروعها السردى قال عنها النقاد إنها كتابة غير نسوية. ومن أعمالها أيضًا المجموعة القصصية «الراقص» الصادرة عن هيئة قصور الثقافة، وأخيرًا صدر لها «شال أحمر يحمل خطيئة». فى روايتك «آخر المحظيات» تكشفين عن مأساة زوجة اكتشفت بعد وفاة زوجها أنه كانت له عشيقة حظيت معه بحياة مغايرة، غير تلك التى عاشتها معه حين انصرف عنها طوال سنوات زواجهما. من وجهة نظرك كيف علينا أن نتعامل مع المسكوت عنه لحظة اكتشافه، خاصة حين يحمل صدمات؟ - بالتأكيد المسكوت عنه غالبًا ما يكون قاسيا، واكتشافه يكون أكثر قسوة، والكتابة له تكون أكثر وأكثر، فعندما نكتبه ونضعه أمام أعيننا نراه ونتمعن فيه ونتألم ألمًا خالصاً. وفى «آخر المحظيات» حاولت أن أرصد حالة الإنسان رجلًا كان أم امرأة، حينما يتمزق بين تقاليد المجمتع وبين ما يريده ويرغب فيه، هذا الإنسان فى النهاية غالبًا لن يحصل إلا على التعاسة لنفسه ولمن حوله بالتزامن، سواء أكانت الزوجة التى تعانى الجفاف العاطفى والإنسانى أو العاشقة التى لن تنال إلا حياة فى الظل، فكل الأطراف تعانى التعاسة والحرمان والازدوجية بين ما يرغبون فيه وما يعيشون به. وأنا شخصيًا قابلت كثيرًا من الرجال اعترفوا لى بأنهم مثل «رامى» بطل رواية «آخر المحظيات»، وهم عادة لا يدرون حجم التعاسة التى يسببونها لزوجاتهم ولحبيباتهم أيضاً. وعلى كل حال نحن يمكننا أن نجزم بأن الإبداع بشكل عام قد انشغل منذ بداياته بكشف المسكوت عنه، وإلا ماذا يمكننا أن نسمى ما جاء به سوفكليس فى رائعته «أُديب»، فعندما يفقد الإنسان بصيرته ويرتكب الأخطاء العظيمة التى ينوء بحملها ضميره، لن يتحمل هذه الأوزار سوى الورق الذى تكتب عليه. ومنذ سوفوكليس وشكسبير وعظماء الأدب على مر العصور، وإلى أن تنتهى الحياة بمن عليها سيظل الإنسان يكرر أخطاءه، وسيظل المبدعون يكتبونها. لكن دعينى أخبرك شيئًا عن هذه الرواية تحديداً؛ حقيقةً هى تجربة غريبة عنى فى الكتابة، لقد استغرقتُ وقتا كثيرًا حتى أقبض على روح الشخصيات حتى أستطيع أن أشعر ما يشعرون كى أكتبه، كذلك الجزء التاريخى فيها بذلت له جهداً كبيراً لم أعطه من قبل فى كل كتاباتى. هل تتفقين معى على أن من يدعون انفصال ذواتهم تمامًا فى كتاباتهم مراوغون، وأن النص لا بد أن يحمل رسائل أو رائحة الشخص الذى كتبه، حتى إن لم تكن هذه الرسائل تخصه بشكل مباشر، فهى على الأقل تحمل طريقة تلقيه لتجارب الآخرين؟ - نعم أتفق معك؛ ان كل كتابة هى تنبع من الذات أولاً لكى تكون صادقة، وأن من يفصلون بين كتاباتهم وذواتهم هم كاذبون بالضرورة، ومحكوم على إنتاجهم بالفشل، فهو فارغ ولن يعيش طويلاً ولن يصل إلى القارئ. إذن فإلى أى حد تحمل كتاباتك رسائل منكِ؟ كتاباتى تحمل منى الكثير، حتى ما هو ليس لصيقًا بى بشكل مباشر فهو بشكل ما يمثل أفكارى وقناعاتى وانحيازانى اللاإنسانية. - «سحقنى الفزع عندما مرت العربات فوق جسدها، وكأنها شخصية كرتونية، انتصبتْ مبتسمة لا تحاول الهروب، فى انتظار مزيد من الصدمات. وبعدما تجاوزتها، نظرت خلفى. تفحصت ملامحها. كانت تشبهنى تماما». هذه الثمانى والعشرون كلمة حملت سعاد سليمان إلى القصر الملكى الإسبانى، هل لديك تفاصيل أكثر لهذه الومضة «تشابه» ولشعورك وقت كتابتها؟ - عن ومضة «تشابه» تحديدًا يمكننى أن أقول إننى رأيتنى أنا تلك الشخصية التى يتم سحقها تحت القهر والظروف، التى تمثلت فى شخصية كرتونية تنتصب مبتسمة فى انتظار مزيد من الصدمات، وكنت أنا أيضًا الإنسانة التى ترى هذه الشخصية. «تشابه» هى قصة الحياة من وجهة نظرى، ما نواجهه وما سوف نواجهه، وبمجرد نشر القصة راسلنى مئات النساء والرجال الذين يرون فى أنفسهم هذه الشخصية، وربما أن الذى فجر كتابتها كان رؤيتى بائعة المناديل فى إحدى إشارات المرور، حين لمحت فى عينيها كل هذا الإصرار على الحياة رغم قسوة الظروف، فأعادتنى إلى تفاصيل مرعبة وقاسية كان المرور منها بمثابة معجزة. فكلما تذكرتها تغلبنى دموعى. كم كانت صعبة الحياة أو هكذا عشتها. هل التخطيط أم المصادفة هى التى وصلت بهذه الومضة إلى الجائزة؟ - لا التخطيط ولا المصادفة، هو شىء من الأشياء الكثيرة فى الحياة التى تحدث، صدقينى حين أقول لكِ؛ لم أتوقع هذه الجائزة ولا أن تحصل هذه القصة بالذات عليها، وأعتقد أن لدى قصصًا بالمقاييس النقدية، أفضل من «تشابه»، بل أقرب إلىّ منها، مثل قصة «الراقص» فى المجموعة التى تحمل العنوان ذاته، أو قصة «الرجل ذو العمامة». إلى أى حد كان تكثيف اللغة والمعنى صعبًا إلى ما يقرب من عبارة وحيدة؟ - يقيم النقاد الدنيا ويقعدونها عندما يتحدثون عن صعوبة تكثيف اللغة فى السرد، ولكننى ولدت فى بيئة تعيش الحياة بأروع كثافة للغة، فلم أبذل مجهودا فى ذلك، أختار دائما الكلمات التى تصل بالمعنى بأسرع وأكثر شكل يمنح قصتى معنى وجمالًا فيما أعتقد. أنت أعدتِ الاعتبار للقصة القصيرة، من وجهة نظرك لماذا عادة ما يبدأ الكتاب مشوارهم الإبداعى شعراء وقاصين ثم تغويهم الرواية؟ - القصة هذا الفن الرائع الذى أعشق كتابته، ولم أستطع الإخلاص له تماماً، وهذه فعلًا ملاحظة جديرة بالاهتمام، حيث يبدأ الغالبية العظمى من الأدباء بكتابة القصة والشعر وأنا هكذا بدأت، بعدها أغلبنا يتجه إلى الرواية، لا يمكن أن نرجع السبب فى ذلك لسهولة كتابة الرواية طبعاً، حيث إن كتابتها تحتاج لكثير من الخبرة والتخطيط، فهى بناء هندسى ومشروع متعدد الأبعاد لا يملك كثيرون إدارته بسهولة. وعلى كل حال أنا أعتقد أن كل فكرة تفرض الشكل الذى تتخذه سواء كان قصة أو رواية أو مسرحية، أو حتى مجرد بوست على مواقع التواصل الاجتماعى. فى كثير من أعمالك تلجئين إلى الرمز مثلما كان فى قصتيك «كتلة من طين» و«شمعة صفراء»، هل تخشين المصارحة؟ أم تفضلين مراوغة القارئ وإقحام عقله فى النص كمتلقِ فاعل؟ - نعم أفضل أن أقحم القارئ فى القصة وأفضل التلميح وأكره التصريح والمباشرة فى كتابة القصة، وكثير من النقاد يعتبرون الفن الجيد هو الذى يلمح ولا يصرح، وهذا الفن هو ما أبحث عنه أنا بالتأكيد. ألا ترين أنك تكتبين بعض أعمالك بشىء من التعرية والجرأة مثل « بقعة دم فاسدة» أو» موطئ الوصول؟ - أنا أرى أن الرمز فى الكتابة هو الأجمل، لأننى أخاف أن يصفونى بالجرأة، أخاف الوقوع فى هذا الفخ، على الرغم من أن ما عشته وما أحمله أكبر وأكثر مما كتبته، أخاف الجرأة حتى لا أوصم بالفحش والعهر، وأجدنى أراقب نفسى حتى لا أغضب المقربين منى، كما أننى لا أحب الكتابة الفاضحة والوقحة، بل أعتبرها ابتذالاً، وقد تعلمت أن الفن يرقى بالإنسان، وأن الإسفاف فى الأدب نوع من المهانة والامتهان لعقل القارئ. على خلاف أغلب الكتابات النسوية إذا جاز لنا التعبير، فإن سعاد سليمان كثيرًا ما تنتصر للرجل فى كتاباتها على حساب المرأة، خاصة شخصية الأب؛ مثلما كان فى «دورق فارغ» و«دموع فراشة»، ماذا يمثل الأب لسعاد سليمان، الذى دائمًا ما تزين صفحاتها على مواقع التواصل الاجتماعى بصورة ممهورة بعبارات المحبة؟ - أنتصر للإنسان سواء أكان رجلًا أم امرأة، فالمعاناة الإنسانية عندما تأتى تكون واحدة، وتجربة أبى دليل على ذلك، فليس معنى كونى امرأة أن أتنصل من شقاء الآخر، وأبى الذى عانيت منه كثيرا، عانى هو أيضًا كى يعيش بثمانية أبناء فى ظروف صعبة، وإن لم أذكر له سوى فضله فى أنه علمنى ووهبنى حقى فى التعليم الذى صنع منى هذه الكاتبة فيكفيه هذا فضلاً. لقد مرت سنوات طويلة بيننا لم نكن نحمل محبة لبعضنا، ثم أراد الله أن أكتشفه قبل موته، وأعرف الإنسان الشقيان بداخله فصالحت نفسى على محبته التى لم أشبع منها. لكنه مات وهو راضٍ عنى، بعدما تفهمت ظروفه وأصبحت ممتنة جداً لكونى ابنته، ويبدو أننى كنت أحبه من البداية؛ لأننى لم أتصور حتى فى أصعب ظروف معاناتنا أبًا سواه، لا أعرف لماذا ولكنه أبى وكفى. جاءت روايتك «غير المباح» فانتازيا سياسية ترصد لحال بلد ما يتحول شعبه إلى فئران، ألا تعتبرين أن هذا العمل بعيدًا عن الأجواء التى اعتدتِ الكتابة فيها؟ - نعم؛ هذه الرواية كان لها من خصوصيتها الكثير الذى لم أصادفه فى كتابة قبلها، وكان من المدهش لى أنا شخصيا فى هذه الرواية، إنه عند كتابتها أخذت منحى الخيال دون أن أدرى كيف حدث هذا ولماذا؟ فرواية «غير المباح» فانتازيا سياسية ترصد لحال بلد ما يتحول شعبه إلى فئران، بينما يظل الحاكم والأعوان بشر، كانت ممزوجة بروح التراث والتاريخ، وجاءت الحكاية على لسان شهرزاد، التى أخذت تعانى الشيخوخة وتسلط ودموية شهريار، وكشفت التفاصيل عن روح جديدة لشهرزاد مختلفة عما تناوله أغلب الذين استلهموا أعمالًا من هذه الشخصية، حيث معاناتها بعد وقوع بلدها تحت الاحتلال الخارجى والحرب العنيفة بين أبنائها على السلطة. هل ثمة ما تندمين عليه فى حياتك على المستوى الشخصى أو الإبداعى؟ - بالتأكيد جميعنا لديه ما يندم عليه، ولكن لا وقت للطم الخدود، فوقتى لا يتسع له ولدى الكثير الذى أود أن أنجزه، بدلًا من البكاء على اللبن المسكوب. ما الجديد لدى سعاد سليمان؟ - أكتب مسرحية وهو نوع أدبى جربته فى مجموعتى القصصية «شال أحمر يحمل خطيئة» حين كتبت؛ «الجدة منتهية الصلاحية» و«التين والزيتون»، وقتما بزغت فى رأسى فكرة اتخذت شكل المسرحية، وأنا مطيعة جداً لرغبات نصوصى، فلا ألوى عنقها بل أتركها تفعل بى ما تريد. هل أنت راضية عمَ وصلتِ إليه؟ - نعم؛ أنا راضية وإن كنت مقصرة فى حق إبداعى، ولكن الله ينصفنى دائما بدون ألاعيب الشللية والوساطة والطرق الملتوية للحصول على الجوائز.