«حفلة تعذيب» تستقبل بها وزارة الصحة ملايين المرضى من الفقراء والمسنين الباحثين عن علاج على نفقة الدولة يوميا.. فى هذا الحفل الفريد من نوعه، يتفنن العاملون بالوزارة فى معاقبة المرضى بعشرات الأساليب التى لا تمت للإنسانية بصلة، و التى تبدأ من ارهاقهم بالسفر من محافظاتهم حتى المقر الرئيسى للمجالس الطبية المتخصصة بالقاهرة لاستيفاء أوراقهم، مرورا برفض هذه الأوراق، ومطالبتهم باستكمالها، ثم «تذنيبهم» بالوقوف فى طوابير تهد الجبال، نهاية بالتنكيل باعصابهم وحرق دمهم، سواء فى اجراء العمليات لهم أو صرف الأدوية. ورغم أن تكاليف العلاج على نفقة الدولة يكلف الميزانية 2.5 مليار جنيه سنويا، إلا أن المرضى المستحقين يشعرون بالمرارة وهم يعانون من تدهور الخدمة الصحية المتاحة، فى الوقت الذى يرون فيه غيرهم من اصحاب النفوذ والمحاسيب ينعمون بخدمات علاجية مميزة سواء داخل مصر او خارجها، وبميزانيات مفتوحة. أكثر من 5 آلاف مريض تستقبلهم المجالس الطبية يوميا، جعلتهم بيروقراطية وإهمال وزارة الصحة يرون النجوم فى عز الظهر، رغم ان فيهم من بلغ من العمر أرذله وهزمته شيخوخته، وفيهم أيضا الكثيرون من الشباب الذين سرطنت مافيا النظام السابق أجسادهم بالمبيدات المغشوشة والفاسدة، وسرقت منهم أحلى سنوات عمرهم، ثم تركتهم فريسة لنظام صحى غير آدمى لم تطله يد التغيير حتى بعد قيام ثورة 25 يناير.. «الوفد الأسبوعى» رصدت رحلة العذاب فى مقر المجالس الطبية المتخصصة بحى مدينة نصر،حيث العشوائية تطل من كل شئ، وكأن الدولة تعاقب المرضى بسبب مرضهم، بداية من اختيار مقر المجالس الطبية الذى يطل برأسه من بين بلوكات عشوائية، مع موقف سيارات بدائى يزيد من فوضى هذا المكان الصاخب، كما أن السيارت التى تنقل المرضى القادمين من المحافظات الى موقف عبود ورمسيس شبه متهالكة وتزيد من أوجاعهم وآلامهم، فضلا عن انتشار الباعة الجائلين بصورة مرعبة حول المكان. وأمام المقر يتزاحم عشرات المرضى من المسنين وذوى الاحتياجات الخاصة الذين أذلهم الفقر والمرض معا، فبدلا من أن تقدرهم الدولة وترفعهم فوق الرؤوس، فإنها تستمر فى إذلالهم أمام المستشفيات كالمطاريد. رسالة إلى الوزير بعد دقائق من وصولنا للمكان، التقينا سيدة مسنة تدعى شادية السيد عيسى تتكئ على عصا خشبية تحمل عليها آلامها المبرحة..اقتربنا منها احسسنا أنفاسها المتعبة، وهى تقول بصوت مجهد: «خدوا بإيدى يا اولادى «لتجلس على الأرض طلبا للراحة.. اعتقدنا انها فى الثمانين من عمرها، وفوجئنا بانها فى السادسة والخمسين فقط..قالت انها سافرت للقاهرة من محافظة كفر الشيخ فى الساعة الثالثة بعد منتصف الليل حتى تقوم بتسليم المجلس الطبى قرار اللجنة الثلاثية الذى استخرجته بعد رحلة عذاب طويلة من قصر العينى. وأضافت : توفى زوجى بعد صراع مرير مع المرض و الفقر وقلة الحيلة، وكنت أحمله على ظهرى فى مرضه إلى كل المستشفيات الحكومية حتى أصبت بانزلاق غضروفى وتآكل فى فقرات العمود الفقرى، وقرر الاطباء بسسب تأخر حالتى المرضية إجراء جراحة عاجلة للغضروف وتثبيت الفقرات. وأكدت شادية أنها تكبدت كثيرا من الاموال فى الانفاق على قرارات العلاج، وقضت اياما طويلة من العذاب والمشقة فى مستشفى قصر العينى لاستخراج القرار، وسهرت ليالى طويلة فى التنقل بين كفر الشيخوالقاهرة والحكومة لا تراعى حالتها المرضية، وطالبت المسؤولين فى وزارة الصحة وعلى رأسهم الوزير بمراعاة حال المرضى وبخاصة الفقراء والمسنين والرحمة بهم،والسماح باصدار قرارات العلاج من مديريات الصحة التابعة لكل محافظة للتيسير عليهم. كعب داير وتلتقط طرف الحديث إميلة يواقيم شنودة وهى تقول بنبرة هادئة لا تخلو من انكسار: أبلغ من العمر 54 عاما، وأعيش حياة بائسة مع اسرتى بمنطقة ام بيومى بشبرا الخيمة، وزوجى رجل مسن يعمل بالفاعل رغم مرضه ودخله لايكفى مصاريف الأولاد، واصبت بورم خبيث وتم استأصاله بمعهد الاورام وعاودنى هذا المرض اللعين مرة اخرى بصورة اكثر شراسة وأشد خطورة ولم أعد أتحمل آلامه، والدولة تجاهلت الفقراء قبل الثورة وازداد الحال سوءا بعد الثورة. وتؤكد أميلة انها تعانى أشد المعاناة عند استخراج قرارات العلاج، ومعظم الاطباء بمعهد الأورام يقومون بتحويلنا «كعب داير» بين العيادات، وتضيف:»وصلت الساعة السادسة صباحا امام أبواب المجالس الطبية وعندما فتحت أبواب المجلس فوجئت بطابور طويل من المرضى حتى تخيلت ان الباقى من عمرى سوف يضيع فى كآبة الطوابير، وبعد ساعات طويلة فى طابور المرض اذ بالمسئول يؤجل استلام قرارات العلاج الخاصة بنا اسبوعا اخر دون ادنى احساس بمعاناتنا، والأكثر من ذلك عندما اذهب لصرف العلاج المقرر لنا بنموذج القرار اجد نقصا فى الادوية التى اقرها الطبيب فاضطر الى استلام ادوية بديلة ودائما ما يكون النقص فى الادوية الضرورية والتى تم تشخيصها لمرضى المقرر 4 مرات شهريا واقوم بشرائه بمبلغ 35 جنيها للعلبة الواحدة، وهذا يمثل عبئا يضاف الى اعبائى اليومية الثقيلة. معاق مع وقف التنفيذ أما «ميلاد مكرم وليم» فقد لفت نظرنا باعاقته التى أصابت يده وقدمه، ودون أن نسأله وبذكاء شديد أكد ميلاد أن المجالس الطبية «مشروع جيد» ولكن الروتين بالاضافة الى القائمين عليه يقضون على مميزاته وكما يقول ميلاد: حضرت الى المجالس الطبية منذ عشرة شهور لانهاء إجراءات الحصول على سيارة مجهزة للمعاقين وبعد رحلة عذاب فى الحضور يوميا إلى مقر المجالس الطبية والغياب عن عملى وانفاق كثير من الأموال للانتهاء من تلك الإجراءات كانت المفاجأة أن الاطباء أصدروا قرارا بأنى «لائق طبيا» وهذا معناه انى لست معاقا فتظلمت على هذا القرار وسوف يتم اعادة عرضى على لجنة قادمة. واضاف ميلاد :»حصلت فى اتمام المرحلة الاعدادية على مجموع 160 درجة والتحقت بالمرحلة الثانوية الذى كان يشترط القبول بمجموع 180 درجة بسبب إعاقتى، ومن هنا فانا اتوجه بمظلمتى الى وزير الصحة فأقول له كيف يتم اعتبارى معاقا فى التعليم ولا تسمح لى الصحة بترخيص سيارة مجهزة للمعاقين.. وطالب ميلاد المسؤولين بسرعة التحقيق فى تلك الواقعة والمتسببين فى تعطيل مصالح المرضى المعاقين وتوفير ضمانة حقيقية لحصول المعاقين على حقوقهم المشروعة. توسلات رجل مسن وجدناه يرتكن إلى جدار احد المبانى المتهالكة المجاورة للمجالس الطبية ويبكى بألم ويقول: وزارة الصحة أهملت فى علاج زوجتى كريمة السيد شحاتة التى تموت كل يوم بسبب الاهمال والمحسوبية ولم يشفع لها عندهم عذابها وتوسلات رجل مسن مريض لم يتبق من عمره سوى القليل..هكذا بدأ محمد عبد اللطيف درويش حديثه قائلا: أصيبت زوجتى بالسكر ووصل المرض لمرحلة متقدمة، كما أكد الأطباء فى مستشفى الجمهورية بالسيدة زينب انها فى حاجة ضرورية الى جراحة عاجلة واى تأخير فى اجراء العملية سوف يعرضها الى الإصابة بامراض سرطانية. ويواصل درويش حديثه : استخرجت قرارا يحمل رقم 8660861 صادرا بتاريخ 21 يناير 2012 برقم كود 1372 وموجه لمستشفى الجمهورية وعندما توجهنا لاجراء الجراحة لزوجتى طالبنى الاطباء بدفع 15 الف جنيه على وجه السرعة، فعدت الى المجالس الطبية لاستكمال المبلغ بقرار اخر فتم رفض الطلب وقاموا بتحويلها الى مستشفى اخر وهذا التأجيل سوف يودى بحياتها لان اجراءات التحويل تحتاج الى وقت طويل واموال اخرى والنتيجة الحتمية لهذا الاجراء التعسفى موت زوجتى امام المستشفى. مواعيد مضروبة موسى حافظ موسى البالغ من العمر 62 عاما، يقول: أصبت بمياه بيضاء فى عينى قد تتسبب فى فقدان بصرى، استخرجت قرار لجنة ثلاثية من المستشفى الفاطمى بالقنطرة غرب – بمحافظة بور سعيد، وحضرت الى المجالس الطبية يوم 9 يناير الماضى لتسليم اوراق اللجنة الثلاثية، وتم تحديد ميعاد 16 يناير لاستلام القرار، وعدت فى الموعد المحدد ليتم تأجيل الموعد ليوم 18 وتم تأجيله مرة اخرى ليوم 22 يناير، وبعد هذه المواعيد التى ارهقتنى واستنزفت اموالى القليلة فوجئت بعدم قبول اللجنة إصدار القرار وتسلمت ايصالا يحمل رقم 19087916 وطلبوا اوراقا جديدة للمناظرة بجلسة سوف يتم تحدد بعد تقديم الاوراق الجديدة. ويؤكد موسى أنه انفق قيمة اجراء العملية الجراحية على التنقل بين القاهرة – بورسعيد، فى حين ان الاوراق التى سلمها الى المجالس الطبية صادرة من مستشفى عام تابعة لوزارة الصحة، فكيف يتم رفض تلك الاوراق والابحاث التى استغرقت منه شهور وانفق عليها كل ما يملك. «ماذا يفعل رجل يبيع الليمون فى الشارع؟»..بهذا السؤال ا بدأ صابر عبدالله البالغ من العمر 77 عاما حديثه..حصل على قرار علاج لزوجته يحمل كود 17500111 وسبب عودته مرة اخرى ان القرار صدر للعلاج فى مستشفى تبعد عن قريته بمسافة 50 كم وحضر لتعديل القرار للمرة الثالثة، ثم أبلغوه أن عليه العودة مرة رابعة بعد اسبوع لعدم الانتهاء من تعديل القرار وهو ما يكبده مصاريف كثيرة ومعاشه بسيط جدا يبلغ 140 جنيها شهريا. أما محمود عبد الوهاب فيقول بمرارة :وزارة الصحة»بتبهدل فينا» وتتعامل مع المرضى باحتقار شديد بدلا من ان تؤدى واجبها نحوهم وتقدم لهم الرعاية الصحية المحترمة، ويضيف: خرجت من الاسكندرية فى الساعة الرابعة فجرا للحضور الى القاهرة واستخرجت قرار لجنة ثلاثية لأخى المريض من مستشفى فى الاسكندرية بعد خمسة عشر يوما من الاجهاد والمشقة حيث يعانى من جلطة ونزيف حاد بالمخ، وحضرت الى القاهرة لإنهاء قرار العلاج وهو ما يكلفنى اكثر من 200 جنيه فى كل مرة ومع ذلك ولم اجد نتيجة الى الان..ويتساءل محمود: لماذا لم يتم استخراج قرارات علاج من الاسكندرية لتجنبنا وزارة الصحة مشقة السفر والمصاريف ونحن فقراء لا نملك شيئا من حطام الدنيا؟. زكريا عبد المنعم عيسى «43 سنة» إمام وخطيب مسجد، يقول: تقدمت للحصول على سيارة مجهزة للمعاقين والمشكلة ان رسوم التقديم تضاعفت من 100 جنيه الى 300 جنيه، بالاضافة الى دفع 5 آلاف جنيه ضريبة مبيعات وهو ما يزيد اعباء المعاقين البسطاء. ويطالب زكريا رئيس الوزراء الدكتور الجنزورى بالغاء ضريبة المبيعات عن سيارات المعاقين، والسماح للاقارب بقيادة السيارات بدلا من المعاقين بسبب وجود اعاقات تمنعنا من قيادة السيارة حتى المجهزة. هانم محمد الامام «46 سنة» تعانى من تليف بالكبد وارتفاع نسبة السكر وتحتاج لجراحة عاجلة بالفقرات الرابعة والخامسة حضرت من المنوفية للمرة السادسة بعد ان استخرجت قرارا ثلاثيا من مستشفى جامعة المنوفية وطلب منها موظف المجالس الطبية اشعة رنين مغناطيسى، وهى لا تملك سوى أجرة السفر التى أخذتها بالسلف من أحد الجيران، فأولاد الحلال داخل المجالس الطبية دلوني على مستشفى مسجد مصطفى محمود بالمهندسين فتوجهت لعمل الاشعة ووضعوا اسمى ضمن قائمة انتظار طويلة تستغرق أسابيع، وهنا قالت هانم بحسرة والم ما هو دور وزارة الصحة، وما الدعم المقدم لنا نحن المرضى الفقراء؟. متاعب مجانية توجهنا الى الدكتور محمد أسامة الهادى مدير عام المجالس الطبية المتخصصة وطلبنا مقابلته لنضع المشاكل بين يديه وكان الرد فى البداية الرفض، إلى ان وافق بعد أن شرح له السكرتارية اننا نريد عرض المشكلة من وجهة نظر الطرفين. ولكن بمجرد سؤاله عن حلول جذرية لمشاكل المرضى رفض الادلاء باى تصريحات معللا رفضه بان لديه تعليمات ولا يجوزمخالفتها. لم نفهم ماهى هذه التعليمات بالضبط؟.. وهل هى سرية ام هى مقدسة لا يجوز الاقتراب منها؟ وهل هذه التعليمات أهم من مناقشة ازمات المرضى والبحث عن حلول لها بدلا من مضاعفة آلامهم من المرض؟. الدكتور محمد لم يكلف نفسه مشقة الاستماع لهذه الأسئلة، رغم انه المسؤول الأول عن رفع هذه المتاعب والمشاق المجانية التى يكتوى بنارها ملايين المرضى الفقراء، ولكنه كما اتضح لنا لا يريد ذلك رغم انه بحكم موقعه يستطيع ان يضع الحلول الفورية لمشاكل هؤلاء المرضى برفع مذكرة للوزير توضح رأيه فى حل مشاكل استخراج قرارات العلاج لمرضى المحافظات الفقراء من خلال مديريات الصحة بمحافظتهم لانه يعلم جيدا حجم الآلام والمعاناة التى يعانونها للحصول على قرارات العلاج.